الإعلامي ميلاد موسى
تخيّل نفسك تعيش في بلدة صغيرة، تعمل نجارًا، تعود إلى البيت كل يوم لتناول طعامك بهدوء، تتزوج فتاة طيبة وتعيش حياةً عادية. ثم فجأة… بوم! تجد نفسك متورطًا في أعظم قصة عرفتها البشرية! لا، ليست نكتة، إنه القدر. يوسف ابن داود، هذا الرجل الذي لم ينطق بحرف واحد في الكتاب المقدس، كان في وسط الحدث الأكبر، لكنه كان مثل لاعب على مقاعد الاحتياط، الكل يتحدث عنه لكنه يكتفي بالمشاهدة والتصرف لا تصريح، لا مؤتمر صحفي، لا كلمة مكتوبة باسمه، ومع ذلك يوسف كان اللاعب الأهم، وكأنه يقول لنا: “خلّيني على جنب.. الأفعال تتحدث عن نفسها”. أو بالشامي والحمصي " شكلين مابحكي " ملاك في الحلم… ورسالة باردة! الليلة التي تغيّر فيها كل شيء كانت غير متوقعة. يوسف كان غارقًا في نومه، وإذا بالملاك يزور أحلامه. لكن بدلاً من رسائل رومانسية أو إشارات لطيفة، جاءت الرسالة جافة جدًا: "يوسف، مريم حامل بالروح القدس. لا تخف، تزوجها ولا تقلق ". حقًا؟ يا له من حلم غريب، وكأنه إيميل جاف بدون حتى توقيع بـ “تحياتي القلبية”. يوسف لم يصرخ، لم يسأل، لم يقل "يا رب ماذا يحدث؟" بل اكتفى بأن استيقظ وقال: "تمام… رح نتزوج " . تخيل لو حدث ذلك في زمننا؟ ما أول سؤال ستسأله؟ يوسف لم يسأل، وهذا وحده يكفي لتعلم الدرس: "عندما تتحدث السماء، لا تسأل، فقط اتبع التعليمات." هيرودس… والهرب الكبير! إذا كنت تعتقد أن الأمور توقفت هنا، فأنت مخطئ. بعد وقت قصير، يأتي الأمر الثاني: "يوسف، احمل العائلة المقدسة وارحل إلى مصر، بسرعة، قبل أن يأتي هيرودس المجنون ليقتل الطفل". وهذا هو الجنون الحقيقي! رجل نجار، لا يمتلك الكثير، يجد نفسه الآن مجبرًا على الهرب من ملك مرعب لحماية طفل ليس ابنه البيولوجي. كان من الممكن أن يقول: "أنا لست مسؤولًا عن هذا"، لكن لا، يوسف انطلق، وكأن الأمور تسير بشكل طبيعي. لا شكاوى، لا تساؤلات، فقط نجار صامت يقود واحدة من أهم الهجرات في التاريخ. الأب.. الذي لم يحتفل بأبوة! إذا نظرت إلى يوسف كرجل في تلك الأيام، ستجد أن ما فعله كان خرافيًا. الرجل في مجتمعه التقليدي كان يُفتخر به عندما يكون أبًا، عندما يُعترف به كقائد عائلته. يوسف كان أبًا، لكنه لم يكن بحاجة إلى أي اعتراف أو احتفال. كان يعرف أن دوره أهم من مجرد العنوان "أب"، وأنه اختير ليس ليكون في مركز المجد، بل ليكون حارسًا للعائلة المقدسة. يوسف لم يسعَ إلى الإعجاب أو التصفيق، بل كان يكتفي بأن ينجز المهمة بصمت. وبصراحة، هذا بالضبط ما نحتاج إليه اليوم: أشخاص يعملون في الخفاء، بدون أضواء، لكن يتركون بصماتهم في كل خطوة. وفي النهاية.. أين ذهب يوسف؟ الشيء المثير للدهشة هو أن يوسف، بعد كل هذا، اختفى فجأة من القصة. لا نعرف ماذا حدث له بالتحديد، أين عاش أو مات. لكن ربما هذه هي الرسالة الكبرى من يوسف: أنه ليس المهم أن نكون في المقدمة، بل أن نؤدي الدور المرسوم لنا، مهما كان صامتًا. يوسف كان يعلم أنه مجرد أداة في يد السماء، وأنه لن يحتاج إلى عناوين ضخمة في الصحف، ولا إلى تماثيل في الساحات. يكفي أنه أدى مهمته بصدق، وغادر المسرح تاركًا الإنجاز خلفه. يوسف… الرجل الذي أعطانا دروسًا في الصمت وفي الفعل يوسف، هذا الرجل الذي يبدو أنه “في الظل”، كان في الحقيقة في قلب الحدث. وبينما كانت الأضواء مُسلّطة على الآخرين، كان دوره أكثر أهمية مما قد يبدو. هو درس في الحياة: أحيانًا ليس المهم أن تتحدث أو تشرح، المهم أن تتصرف. ختاماً وإذا كانت حياتنا تشبه قصة يوسف، فالأفضل أن نقول: "توقف عن الكلام، وافعل ما يتطلبه الموقف".
0 Comments
Your comment will be posted after it is approved.
Leave a Reply. |
Telosقضايا حاليّة أرشيف
|