الإعلامي ميلاد موسى
في أحد الأيام قبل ألفي عام، وقف شخص هادئ يدعى يسوع في سهلٍ ما في فلسطين، وأعلن رسالته للعالم: “أحبوا بعضكم بعضًا”. كانت الفكرة بسيطة وواضحة، ولا تحتاج إلى تفسير عبقري. لكن، لو عاد اليوم ونظر إلى حال الكنائس والطوائف المسيحية، قد يسأل: “ماذا ولماذا ؟ وهل أصبح الطريق إلى السماء محفوفًا بالمنافسة الطائفية بدلًا من النعمة؟” دعونا نكن واقعيين، المسيحية في الأصل تهدف إلى جمع البشر حول رسالة واحدة: المحبة والرحمة والإنسانية. لكن يبدو أن الطوائف اختارت بدلًا من ذلك أن تدخل في ماراثون التنافس على “الطائفة الأصح”. ويا ليتها كانت مسابقة رياضية سلمية، بل تحولت إلى منافسة شعواء قائمة على التعصب، وكأننا في سباق لا فائز فيه إلا الانقسام. الطوائف: مصطلح جديد لكلمة “نحن الصح والباقي غلط” لنبدأ من هنا. إذا كنت تعيش في منطقة تضم عدة طوائف، فمن المحتمل أنك سمعت هذه العبارة يومًا: “نحن الوحيدون الصح، والباقي مغفلون”. الطوائف المسيحية، التي كان يُفترض أن تكون جسمًا واحدًا، قررت أن تنقسم، بل وتُقسم، الناس إلى معسكرات مذهبية متصارعة. الطائفة الكاثوليكية تقول إنها الأقرب إلى الحق، والكنيسة الأرثوذكسية تؤكد أنها حارسة الإيمان القديم، والطوائف البروتستانتية تعلن أنها وجدت “الإصلاح” الحقيقي. وبين هذا وذاك، يسأل المسيحي العادي: “أين ذهب الهدف المشترك؟” الواقع أن بعض ونؤكد البعض من قادة الطوائف، بدلًا من العمل على تعزيز الوحدة، قد أسهموا في تعميق الخلافات. فالخلافات المذهبية التي قد تبدو على الورق “اختلافات ثانوية” تُضخَّم لتصبح صراعات وجودية، وكأن السماء نفسها ستنهار إذا تجرأت طائفة على ممارسة طقس مختلف. “لعبة الطقوس” الكبرى! لا بد أن نتحدث عن الطقوس، أو كما نسميها في زمننا الحالي: “الأسباب التي نقاتل من أجلها”. نعم، بعض الاختلافات بين الطوائف لا تتعلق بالعقائد اللاهوتية العميقة بقدر ما تتعلق بتفاصيل لا تؤثر إطلاقًا في جوهر الإيمان. مثلًا، هل يجب أن تكون الصلوات بصوت مرتفع أم منخفض؟ هل نغني التراتيل بالعربية أم باليونانية؟ هل نعتمد على الزيت المقدس أو الماء المقدس؟ كلها أمور قد تبدو مهمة لبعض الأشخاص، ولكن هل هي حقًا تستحق الحروب الكلامية التي نراها اليوم؟ ما يزيد الطين بلة هو أن هذه التفاصيل تتحول إلى أعلام تُرفع في معركة غير منتهية على “من يملك النسخة الصحيحة للإيمان”. فتخيل معي، بدل أن نجتمع على المحبة، أصبحنا نتجادل حول قهوة الطقوس. “هل تفضلها سوداء؟ لا، أنا أحبها بالحليب!”. وفي النهاية، كل طرف يعتبر الآخر “هرطوقيًا” لأنه اختار نوعًا آخر من القهوة. الجروح التاريخية: كأنّنا نعيش في القرن الخامس! إذا سألت أحدهم اليوم عن سبب انشقاق الطوائف، قد يبدأ بسرد قصص تاريخية عن المجامع المسكونية الأولى، أو الصراعات حول الطبيعة الإلهية والبشرية للمسيح. هذه الخلافات قد تكون جزءًا من كتب التاريخ، وقد تكون حقيقية، لكن المشكلة أن البعض ما زال يفتح تلك الجروح التاريخية وكأنها حدثت بالأمس. حتى النسيان أصبح جريمة في حد ذاته، وكأن المسيحية لا يمكن أن تعيش دون تذكير دائم بالانقسامات القديمة. وكما هو الحال في كل صراع تاريخي طويل، يتحول الجدل حول العقائد إلى جزء من الهوية. فلا يكفي أن تؤمن بالمسيح، بل يجب أن تؤمن “بالطريقة الصحيحة” وفقًا لتعليمات الطائفة. وهكذا، تجد نفسك منغمسًا في نقاشات عقائدية لا تنتهي حول مسائل ربما لم تعد تهم أحدًا في هذا الزمن، لكنها لا تزال تُشعل نيران الخلافات! التنوع كقوة… لكن أين نحن من هذا؟ هنا السؤال الكبير: هل كان يجب أن تكون التعددية الطقسية والعقائدية مشكلة؟ في الواقع، المسيحية كان من الممكن أن تكون مثالًا رائعًا على كيفية التعامل مع التنوع. كل طائفة لديها تاريخها وتقاليدها، وقد يكون هذا غنىً روحيًا عظيمًا إذا تم التعامل معه بتفهم واحترام. ولكن، للأسف، اختارت الطوائف أن تنظر إلى هذا التنوع كعلامة على التفكك، وليس على الوحدة. ما كان يمكن أن يكون لوحة فسيفساء روحية جميلة، تحول إلى حرب مفتوحة بين من يرى أن إيمانه هو الطريق الوحيد الصحيح، ومن يعتقد أن أي انحراف طفيف عن تعاليمه هو كفر مبين. وهنا نعود إلى السؤال الأساسي: ألم تكن رسالة المسيح تتعلق بالمحبة والوحدة؟ كيف تحولت إلى ساحة معركة؟ خاتمة: حينما يصبح الخلاف جزءًا من الحياة اليومية في النهاية، لانريد مهاجمة طائفة أو محابة أخرى ، حاشى .. ولكن إذا كنت تنتظر مني تقديم حل سحري لكل هذه الخلافات، فسأقول لك بصراحة: ليس لدي الحل. لكن ما يمكنني قوله هو أننا بحاجة إلى هدنة فكرية. الطوائف المسيحية اليوم تحتاج إلى مراجعة نفسها، والعودة إلى الأساسيات. لا نحتاج إلى مزيد من الطقوس المعقدة أو الجدل العقيم، بل نحتاج إلى العودة إلى ما قاله المسيح في البداية: “أحبوا بعضكم بعضًا”. إن لم نتمكن من فعل ذلك، فربما نكون جميعًا في مشكلة أكبر مما نعتقد. ربما حان الوقت لنتوقف عن الجدال حول نوع المتة أو القهوة ونتحدث عن الحياة نفسها: عن الرحمة، وعن المغفرة، وعن الإنسان. حتى ذلك الوقت، استعد للمزيد من الانقسامات والتعصبات، ويا قلبي لا تتعب قلبك !
0 Comments
Your comment will be posted after it is approved.
Leave a Reply. |
Telosقضايا حاليّة أرشيف
|