لقد شهد قيام عدد من أعرق الحضارات في العالم، وكان الروم يسمّونه «بحرنا» (mare nostrum). فالأبيض المتوسّط كان يتوسّط أراضي الإمبراطوريّة الرومانيّة كما لو كان بحيرةً كبيرةً تضفي على الأقوام الساكنين في مداها الجغرافيّ كثيراً من التبادل التجاريّ الآتي من البحر، وبعضاً من هويّة مشتركة يستمدّها الناس من سرّ الماء ومن سحره.
سقط الحلم الرومانيّ بالبحيرة التي تتوسّط الإمبراطوريّة حين تدفّقت القبائل الجرمانيّة على جزئها الغربيّ إبّان القرن الخامس. فنصبت مضاربها في إيطاليا وإسبانيا وعلى سواحل إفريقيا الشماليّة. صارت القسطنطينيّة العاصمة الفعليّة لإمبراطوريّة الروم، لكونها كانت، بمعنًى ما، في منأًى عن الزلزال الجرمانيّ الذي عصف بالغرب. وفي خضمّ هذا التيه، تحوّل أسقف روما إلى ما يشبه الرمز الوحيد لارتباط الغرب بالفكرة الرومانيّة القديمة، وصار الجسر الذي يصل المدينة الخالدة بأختها روما الجديدة على ضفاف البوسفور. ولقد اقتضى تنصير الجرمان «البرابرة» مئات السنين وجيشاً من الرهابين واللاهوتيّين. حاول القيصر جوستنيان (٥٢٧-٥٦٥) الالتفاف على تقلّبات التاريخ واستعادة الحلم الرومانيّ القديم عبر انتصارات سجّلها، هنا وهناك، على الوافدين الجدد. إبّان القرن السادس، كاد الأبيض المتوسّط يرجع إلى روميّته الصرف بحيرةً في وسط بقعة جغرافيّة تكاد تكون دائريّةً على الرغم من تعرّجاتها. لكنّ منطق الحراك التاريخيّ كان أقوى من منطق الإيديولوجيا، إذ ما لبث الإسلام، الدين الجديد الذي حيّر لاهوتيّي المسيحيّة بفعل سرعة انتشاره، أن ضرب جذوره على سواحل المتوسّط مكرّساً الشرخ الدينيّ بين شمال المتوسّط وجنوبه. نقول منطق الحراك التاريخيّ، ونعني بذلك الهجرات المتعاقبة. قدر الأبيض المتوسّط أن يكون مسرح هذه الهجرات من الجرمان مروراً بالعرب والنورمان، أي رجال الشمال، الذين بلغ مدّهم جنوب إيطاليا، وصولاً إلى اليهود والهجرات الحديثة في زوارق الموت سعياً إلى أوروبّا الجميلة في حضارتها واحترامها للإنسان. وقبل هؤلاء، هاجر الكنعانيّون والكريتيّون واليونانيّون وحوّلوا بعض شواطئ المتوسّط إلى منارات للعلم والثقافة، وهاجرت في «بحرنا» أقوام لا تعدّ ولا تحصى. ومن ثمّ، فإنّ الإيديولوجيا الرومانيّة التي أرادت تحويل الأبيض المتوسّط إلى بحيرة في خضمّها لم تكن إلّا مجرّد استثناء في حكاية التاريخ. فقدر الأبيض المتوسّط أن يكون مدًى جغرافيّاً يؤسّس للتداخل بين الدول والأقوام وتتحكّم الهجرات المتعاقبة في مصائر ناسه. غير أنّ الشعوب المحيطة بالأبيض المتوسّط تتنكّر اليوم لهذا التاريخ المصنوع بالهجرة. على إيقاع صفقات سياسيّة تسعى إلى تقاسم الغاز والنفط، تسوّر ذاتها كي تحمي ذاتها من «البرابرة» الجدد الذين تسوقهم إليها زوارق الفقر والخوف والحروب، فتنكر على الأبيض المتوسّط هويّته التاريخيّة التي تقوم على التبادل، لا التجاريّ فقط، بل الإنسانيّ والثقافيّ أيضاً. فالتاريخ يعلّمنا أنّ الغرباء لا يحملون معهم حزنهم فحسب، كما تغنّي فيروز، بل كذلك كلّ ما تختزنه نفوسهم من خبرات ومهارات تغتني بها المجتمعات التي يلتجئون إليها. وهذا يولّد ثقافةً وتجدّداً وتعاضداً إنسانيّاً لا غنى عنه إذا نحن أردنا ألّا تتحوّل المعيّة الإنسانيّة إلى صحراء. حين يأتي أسقف روما فرنسيس إلى قبرص واليونان، فهو يأتي إلى بقعة جغرافيّة مغرقة في روميّتها، كما كتب القدّيس غريغوريوس الصانع العجائب عن بيروت ذات يوم. فناسها ما زالوا يعيشون من المدّ الثقافيّ العظيم الذي صنعته القسطنطينيّة، روما الجديدة، حبّاً للفلسفة وإمعاناً في لغة الرمز وتصوّفاً ونوراً ينبعث من ضياء الأيقونات، التي قيل عنها إنّها نوافذ على السماء. الإسلام العظيم، حتّى في نقده للمسيحيّة، كان وريث هذا المدّ عبر استدخاله الفلسفة في عمارته الفكريّة والتماعات أهل التصوّف فيه. لكنّ البابا فرنسيس يأتي أيضاً حاملاً في جبّته تراث أسلافه الصيد على كرسي روما، الذين بذلوا الغالي والنفيس كي يجعلوا من هجرة الجرمان إلى غرب الإمبراطوريّة القديمة هجرةً «إنسانيّةً» عبر تنصيرهم ونفحهم بروحانيّة الإنجيل الذي يحبّ الغريب ويدافع عن المسكين، وذلك على الرغم من الشرخ اللاهوتيّ الذي راح يرتسم بين شرق إمبراطوريّة الروم وغربها منذ القرن السابع. ومن ثمّ، هو يأتي أيضاً كي يذكّر أراخنة الأمم بأنّ الهجرات التي يشهدها الأبيض المتوسّط اليوم يمكنها أن تصبح باباً لإعادة اكتشاف معنى الأخوّة الإنسانيّة بين البشر، وبين الأديان التي مهرت بختمها صفحة هذا البحر العظيم. يذكّر، لأنّه مجرّد مذكّر، وليس «عليهم بمسيطر»، كما يقول القرآن الكريم. ولعلّه يصطحب معه، كما قبل بضع من السنوات، في طريق عودته إلى أصغر دولة في العالم عدداً من الذين مخرت زوارقهم الصغيرة عباب الأبيض المتوسّط طمعاً في حياة تكثر فيها الإنسانيّة ويقلّ فيها العسف. طبعاً، قوّة هذه الرسالة لا تكمن في قدرتها على فرض ذاتها، بل في رمزيّتها التي تحيل إلى ضرورة التراحم بين البشر لئلّا نتحوّل إلى مجرّد قطيع ذئاب تتناتش اللحم في ما بينها على ضفاف الأبيض المتوسّط.
0 Comments
بقلم الإعلامي ميلاد موسى
قد لاتقبل ...... وتمتعض.. وتمتعص ... وتغضب وتشتم .... وتزمجر وتدمدم وتحمحم ......و تسخط وتحنق وتحتد .....و ترغي وتزبد ..... وتثور وتمور وتشجب وتستنفر وتستنكف .....لكن أمهلني قليلا لأشرح ..... لم أقصد بالعنوان تشكيل فعل الصدمة لديك.. أو دغدغة رجولة متيقظة كانت أم غير ذلك.. كل ما في الأمر هو طرح رأي شخصي تشكل بعد عدة قراءات ومشاهدات.. فكان لا بد له من الظهور.. وطرق باب التساؤل..... في انجيل البشير لوقا الاصحاح الثامن يتم التنويه إلى وجود نساء مرافقات ليسوع المسيح وللتلاميذ وهم المجدلية (التي خرج منها 7 شياطين) وسوسنة ، ويونا (زوجة خوزي وكيل هيردوس) وكما نعلم بأن البشير لوقا أعطى المرأة اهتماما خاصا فقد تواجدت رفقة الرجل في كل أحدث الانجيل بحسب لوقا . فمنذ البداية كانت البشرى الملائكية لزكريا ثم لمريم ام يسوع . والشفاء الأول ليسوع عند لوقا كان لرجل حيث أخرج منه روح شريرة ثم شفى حماة بطرس . وأقام من الموت عبد قائد المئة والابن الوحيد لارملة من نايين . وأمثلة كثيرة في انجيل لوقا عن هذه الثنائية الرائعة ... التي تقودنا في الاصحاح الثامن إلى التمليذات المخلصات .... فمع يسوع كان هناك حسب الاصحاح السادس 12 تلميذ ولكن بعدها مباشرة تم ذكر التلميذات المرافقات .... وذكر منهم ثلاث ولكن ما المانع ان يكون العدد 12 أو حتى أكثر ... لسنا هنا بصدد ذكر العدد ولكن نريد مما تقدم تأكيد رفقة هؤلاء التلميذات للرب يسوع المسيح والاعتراف بفضلهم وقوتهم... تتصدر المجدلية لائحة النساء لانها لعبت دور كبير في حملة يسوع ، فالمجدلية لم تكن امرأة زانية ( كما يروج لها ) ولكن كانت امراة شفيت على يد يسوع المسيح ( أخرج منها سبعة شياطين ) لحقت بيسوع إلى كل مكان رغم العادات والتقاليد التي كانت تكبل المرأة آنذاك يونا .... زوجها خوزي الذي يعمل عند هيرودس الذي قطع راس يوحنا . وتخيلوا معي هذه الجرأة من يونا فلم تأبه لمدير زوجها المتسلط والديكتاوري ولكن لحقت قلبها والتصقت بسوع المسيح سوسونة التي عرف عنها بأنها قدمت الكثير من مالها لخدمة بشارة يسوع وأنفقت حتى على التلاميذ . هؤلاء التلميذات الشجاعات .. لم يتركوا يسوع ابدا خلال رحلته حتى الصلب والقيامة ...... تلميذات شفين وتبعن يسوع . الاختبار الأكبر كان عند الوصول إلى اروشيلم حيث تنكر ليسوع كل التلاميذ وكل الاحبة والأقارب ... ماعدا هؤلاء النسوة ( وبالطبع أم يسوع مريم ) لحقن به حتى المنتهى ..... وقفوا جميعا تحت خشبة الصليب لم يخفن من أحد ... حتى عند دفن جسد يسوع هن ساعدن وأخذن وطيبن ودفن . وبعد الدفن لم تختبئ، تلك النسوة كما فعل التلاميذ، بل ذهبن إلى القبر وأخذن من الرب يسوع البشارة الكبرى بشارة القيامة . .... كمافأة على حبهن العظيم وقوتهم وشجاعتهن واخلاصهن حتى النهاية ...... مما تقدم ..... يسوع لم يعتمد فقط على 12 تلميذ .... بل أيضا على تلميذات شجاعات مخلصات حتى المنتهى ..... محبات حتى عتبة الصليب والقيامة ... لذلك استحققن هذه المكافأة الكبيرة ماريَّا قباره
إنَّ التواجد في العالم الرقميّ اليوم باتَ حقيقة لا خياراً. وقد شكّلت هذه التكنولوجيا المتسارعة تحديّاً طارئاً للكنيسة ولشهادتها في العالم من النواحي الأنثروبولوجيّة والروحيّة واللاهوتيّة والأخلاقيّة، والتي تفرض على الكنيسة مواجهتها ضمن خلقٍ جديد واعٍ في الجماعة الكنسيّة شاهدةً لرسالتها. فما كان موقف الكنيسة الأرثوذكسيّة من التسارع الرقمي الذي أوجده انتشار فايروس كورونا؟ وهل يمكن لهذه الجائحة أن تكون بمثابة عاصفة تجديدٍ في الفكر الكنسيّ، وإعادة تحقيق العلاقة المتوازنة بين اللاهوت والعلم؟ لقد حلَّت جائحة كورونا على البشريّة حيث لم يكن العالم مستعداً أو جاهزاً لمواجهتها، وكان يتطلّب في وقته استجابة فورية ومنظّمة وخاصّة على مستوى النظام الصّحيّ العام. فجاءت الإرشادات والإجراءات الوقائية مع بدء انتشاره للحدّ وتقليص عدد المرضى والمصابين والموتى من جرائه. ومن تابع بموضوعية تعاطي الكنائس الأرثوذكسيّة مع جائحة كورونا سيخلص إلى الملاحظات التالية: أزمة إدارة "جائحة كورونا" لقد كانت استجابة الكنيسة للوباء بطيئةً للغاية، سواء كان من ناحية إصدار البيانات المتناسبة مع وزارة الصّحة العالميّة أو من ناحية تحضير الكهنة والتنظيم الكنسيّ على مستوى التكنولوجيا لواقع الكنيسة الرقمي. وهذه الوتيرة البطيئة جلبت، ومازالت، الكثير من الأخطاء، وأظهرت العجز والتخلف في بعض الممارسات والتصريحات من بعض الرعاة والكهنة أمام تطوّر العلوم الطبيّة والمخبريّة. إلاّ أنّه في نفس الوقت ظهرت مبادرات فرديّة من إكليريكيّين ولاهوتيّين ومؤمنين أخصّائيّن في تقديم الكثير من الحلول العلميّة والعمليّة واللاهوتيّة لمسائل ارتبطت بالأدوات الطقسيّة وضبط الأمور الرعائيّة، ولكنّها لم تؤخذ بعين الاعتبار، برغم مرور سنة حتى الآن، وهذا يعود إلى أنّ قيادات الكنيسة ومجامعها لا تريد إظهار الجديّة والمرونة وإظهار الشجاعة والتكيّف اللازم للتعاطي مع هذا الوباء الذي تحدّى العالم بأسره. إنّ جائحة فايروس كورونا- covid 19، ليسَ الجائحة العالميّة الأولى وليسَ الأخيرة التي تمرّ على البشرية. وللكنيسة أمثلة عمليّة كثيرة في تاريخها من الممكن استخلاصها والأخذ بمعطياتها الإيجابيّة لمساعدة الجماعة الكنسيّة في هذا المجتمع الكبير. في عصر الآباء، رؤساء الكهنة العظام: باسيليوس الكبير وغريغوريوس اللاهوتيّ ويوحنّا الذهبيّ الفمّ، كان أغلبية المؤمنين يؤمنون بالشفاء عن طريق الضرب البسيط على الرأس من قبل رجال الدين، أو من خلال تلاوة صلواتٍ وأدعية عامّة. لقد سادَ في ذلك الوقت التعصّب الأعمى. فالسِحر كان منتشراً في طبقات المجتمع المسيحيّ ككلّ، وكانت الرسوم الغامضة والأقوال والتمائم السحريّة لطرد الأرواح الشريرة قيد الاستعمال اليوميّ. فقد كانت حدود الإيمان عندهم تستند إلى قوة السِحْر وفعله. لذا أخذ الآباء يشدّدون من خلال أقوالهم ورعايتهم على قيمة العلوم وأهميتها وعلاقتها مع الإيمان. فباسيليوس الكبير، في كتابه الستة أيام- Η Εξαήμερος، كان يدافع عن ضرورة احترام العلوم الطبيّة، ويشدّد على أنّ أصله خيرٌ من الله نفسه. في حين أن الذهبيّ الفم كان يقول: "أنّ لولا خروج الإنسان من الفردوس لما كان من حاجة لوجود الأطباء. فالله أعطى الإنسان العقل المتجدّد بالعلم ليساعد الإنسانية جمعاء". وكثيراً ما كان يستخدم صوراً وأمثلة من الطبّ عندما كان يتكلّم عن القضايا والمسائل اللاهوتيّة. وبدوره، أيضا،ً غريغوريوس اللاهوتي كان يشدّد في نصوصه على نمط وأسلوب الأطباء الفعّال في معالجة المرضى حيث يقول: "على الطبيب أن يكون في حالة معنوية جيدة. فثقة المريض به وإظهار محبته من خلال اهتمامه به سيساعد كثيراً في تخفيف ألمه". الكنيسة والعالم الرقميّ لقد كشف الوباء حقيقة أننّا بحاجّة ماسّة إلى إعادة تحليل أمورٍ كنسيّة جديدة على ضوء القيود والإجراءات المفروضة كالمسافة الاجتماعية الآمنة والصّحة العامة. وبالتالي التجربة الرقمية الكنسيّة التي اتخذت في الكنائس، والتي ستستمر أيضاً لفترة أطول، ستؤثر على حضور الجماعة الكنسيّة في الكنيسة. أمّا آثار التكيّف مع الكنيسة الرقمية سيكون له رد فعل مؤلم ومعقد إن لم يُحتوى بشكلٍ يناسب خير وبنيان كلّ الكنيسة. ومن هنا، على القيادات الكنسيّة أن تتحمّل بشجاعة ردود الفعل المتطرفة بهذا الشأن، وتسعى منطلقة من أساسها اللاهوتي الجامع لإعادة ولادة روحيّة لطريقةٍ تفعّل فيها رسالة المسيح، وتكون فرصة لتجديد إنجيلي للتقنيات المستخدمة بحكمة ووعي وتعقلٍ. بالواقع، لقد أدخلنا التقنيات الحديثة في النطاق الكنسيّ، فكثير من الكنائس تستعمل أجهزة IPads لقراءة الرسائل والانجيل أثناء الخدمات الطقسية، وتستخدم أيضاً أجهزة الموبايلات في الأديار وأنشأت المواقع الألكترونية للأبرشيات والمدونات والقنوات التلفزيونية الدينية.. الخ. ولكن هنا نواجه شيئاً مختلفاً تماماً، إنّه تجربة كنسيّة إفخاريستية- رقمية، لا يمكننا معرفة الآثار طويلة الأمد وعواقب التطورات الرقمية التي نشهد تسارعها يومياً بسبب فايروس كورونا. ومن هنا، برأيي، أن هذا التسارع يفتح فرصاً للكنيسة لإعادة التبشير الكنسي في مجتمعٍ يتسم بتعددية العبادة المسيحية بطابع تنافسي رعائي. وهذا العالم الرقمي المفروض لتقليل المسافات الاجتماعية طبيعيٌ ويعطي راحة وأمان للعالم. وبالتالي السؤال اللاهوتي الذي يفرض نفسه هو: كيف يمكن أن يكون لدينا خدمة إفخاريستيّة مكتملة وموحدة دور مشاركة مكتظة من المؤمنين؟ وكيف نستطيع أن نفعّل دور الكهنوت الملوكي للمؤمنين في توزيع الإفخاريستيا الى جانب دور الكهنة؟ إنّه سؤال معقَد للغاية، وبالتالي جوابه لا يمكن أن يكون بردود فعلٍ أصولية متزمتة. فالعلاقة الكنسيّة- الرقمية سترافقنا طوال فترة الوباء وما بعده، لذا علينا أن نوازن في العلاقة هذه، ونبحث في تاريحنا الأرثوذكسي العظيم الغني عن حلولٍ لكي لا نضيّع هذه الفرصة التي تقوم على الصلاة والحكمة والنعمة الإلهية. العلاقة بين الإيمان والعلم وكشف التاريخ الأرثوذكسي إنّ معظم المسيحييّن الأرثوذكس في هذا العالم لا يعرفون تاريخهم، ولا نقدّر ثراء التاريخ والتقليد الأرثوذكسي. لقد فتحت لنا الجائحة ضرورة ملحّة لتطوير معرفتنا بالتاريخ الأرثوذكسيّ، هذا التاريخ الذي كانت فيه رؤية الكنيسة واضحة وموفقة في التوازن بين الإيمان والعلم. إنّ سوء الفهم الذي سادَ طوال فترة الجائحة لدى الكثير من رؤساء الكهنة والكهنة والمؤمنين من جميع الطبقات حول تلك العلاقة المعاكسة للإيمان والعلم بأنّ "للإيمان تأثير مباشر على معالجة الوباء"، وهذا بلا شكّ يتوجّب تصحيحه وذلك بالمشاركة المستمرة وفتح باب الحوار والنقاش مع لاهوتييّن ومختصّين في مجال الطبّ والصّحة العامّة. نحن ما زلنا نواجه وضعاً سريالياً حيث يرفض الكثير من الأرثوذكس (إكليروس ومؤمنون) حتّى مراعاة التدابير الوقائية اللازمة لحماية أنفسهم وحماية الآخرين من حولهم. ويرفضون ارتداء "الكمامة" حتّى في أقل الخدمات الكنسيّة عدداً كما في حفلات الزفاف وطقس المعمودية والجنازات. لا بل، أيضاً، يأخذون بانتقاد العلم ويعتبرونه، للأسف، عدواً للإيمان. هذه الفئة تعتبر أنّ الإيمان الأرثوذكسيّ هو بمثابة عبادة سِحرية، وهذا النهج يُصبح أكثر تطرفاً وأصولية عندما يتمّ ربطه دوماً بإيديولوجيات سياسية علمانية. هذه الظاهرة الأصولية لا علاقة لها نهائياً باللاهوت الأرثوذكسيّ، وتتجاهل بالكامل ما نؤمن به. فكلّ إنسان مخلوق على صورة الله ومثاله، ومسؤوليتنا الروحيّة واللاهوتيّة هي حماية إخوتنا من خلال تطبيق الإجراءات الوقائيّة المطلوبة. أمام الكنيسة فرصة إعادة توجيه الرعاة والرعية من خلال تربية سليمة توازن العلاقة ما بين الإيمان والعلم في محاربة الفايروس والأصولية والتطرف. فايروس الأصوليّة المسيحيّة كلّ نقاش تمّ خلال فترة الجائحة، على مدار السّنة، حول موضوع "الملعقة المشتركة" التي توزَع فيها "جسد المسيح ودمه الكريمَين" على المؤمنين بحسب الطقس الأرثوذكسيّ في سرّ الإفخاريستيا، عُبّر عنه بأكثر الطرق تطرفاً وأصولية، وأظهر الفقر التام والجهل بالمعرفة حول تاريخنا وتقليدنا الأرثوذكسيّ. وبالتالي، هذا الوباء يضعنا أمام فرصة النقد الذاتي لتحسين وتجديد التعليم الديني واللاهوتي للرعاة والكهنة والمؤمنين. وأيضاً، الاستفادة من العالم الرقمي وبرامجه بشكلٍ كبير لنقل تجارب وخبرات الأرثوذكسييّن ومعارفهم الطبيّة واللاهوتية بشكلٍ واسع وجديَ. ما معنى أن نكون "كنيسة" ونختبر ونعيش ما نُسمى عليه؟ من المهم أن نعتبر أنّ هذه الجائحة عاصفة ذات مغزى لتجديدٍ في كنائسنا، وتجديد الفهم القائم على العلاقة ما بين الإيمان والعلم. الكنيسة الأرثوذكسيّة في ركودٍ قاحل، فالعلم اللاهوتيّ المطروح لا يحمل في طياته توثيق موضوعيّ لهذه العلاقة التي يجب أن ترتقي من الحالة الإيمانية الإختبارية الشخصية للمؤمن إلى حالة أكثر جوهرية من حيث علاقته بالكنيسة، وإلاّ فتهميش الكنيسة الأرثوذكسيّة آتٍ لا محالة! لا يمكن للكنيسة أن تتجنب فتح النقاش والحوار حول المواضيع التي تطّرق لها الوباء، وهي تطوّر الأبحاث الطبيّة والعلوم الوراثية. أما حديث البعض عن أنّ اللقاحات تحوي أقراصاً معدنية تضعها شركات الأدوية لتغيير الحمض النووي DNA في الجسم وللتجسس عالمياً هو ضربٌ من الجنون! نقاشٌ شائن بالطبع لا يصلح إلاّ من خلال نظام تعليمي عفا عنه الزمان. هذه الطروحات لا علاقة لها باللاهوت والعبادة. هل طُرح موضوع علاقة اللاهوت بالطبّ في معاهد اللاهوت والإكليركيات أقلّه؟ إذا كان لا، فجدير بنا أن يكون هذا أول نقاش وحوار يُطرح حول: "الإيمان والعلم والمرض". أخيراً، نحن بحاجة لنهجٍ لاهوتي كبير، وإعادة ثقة المؤمنين بكنيستهم وعدم تضليلهم بمعلومات وفتاوى وتفاصيل دون رقابة علمية ولاهوتية. الحوار باتَ ضروري مع أصحاب الإختصاصات بكافة المجالات: الطبّ- علم الوراثة- علم البيئة والمناخ- علم اللاهوت. ونشره بكلٍ وعي ونضجٍ وصدقٍ وشجاعة. فالأرثوذكس ينبغي أن يكونوا حماة إيمان وعلمٍ وليسَ عِرقاً متفوقاً على الآخرين بسحرٍ أو عبادة غيبية. إلى روح كلّ إنسان مات في سبيل كرامته البشريّة في سوريا ولبنان وكلّ مكان
خريستو المرّ الثلاثاء ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢١ يعيش العالم العربيّ في ظلّ أنظمة استبدادٍ قائمةٍ على عبادة الشخص وفرض عبادته بالقوّة والخوف، أي بإرهاب الدولة لمواطنيها. في ظلّ هذا الوضع، كلمات مثل الجمهوريّة والملكيّة لا معنى لهما، فالأنظمة واحدة في الاستبداد المتحالف دائمًا مع الخارج. يبدأ الاستبداد في محو الآخر، شخص أو مجموعة تقمع الآخرين داخليّا وتبني لها شبكة مصالح مع طبقة اقتصاديّة، مستقويةً بذلك على المجتمع الأوسع. والاستبداد لبّه تأليه الذات، فكلّ الاستبدادات تصبّ في ديانة عبادة الشخص. تنتشر صور الزعيم الأوحد «المفدّى»، وتَزرع المدارسُ ووسائل الإعلام «محبّته» في برامج غسل أدمغة تُسبغ على الزعيم صفات غريبة عنه في الواقع. لكنّ عبادة الشخص هذه قهريّة، على عكس عبادة الله التي ترتكز في صفائها على الحرّية (من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر). ويبلغ سعي المستبدّ إلى سرقة صفات الله أقصاه، بشكل مشوّه، حين تصبح كلمة المستبدّ مصدر موت للمعارضين، بحيث يتوهّم المستبدّ بقدرته على تدمير الحياة أنّ له قدرة مطلقة على شكل قدرة الله، لكنّ قدرة الله تخلق الحياة ولا يفهم ذلك القاتلون. وبينما قدّم «الراعي الصالح» نفسه مصلوبًا من أجل أحبّائه، يصلب المستبدّون مستعبَديهم ويذيقوهم ألون الذلّ والخوف؛ وما «المحبّة» الظاهرة للـ«قائد» المستبدّ سوى الوجه الآخر للخوف، والخوفُ يُبقي الإنسانَ تحت العبوديّة. وفي البلاد التي ينتشر فيها استبدادٌ واحدٌ برؤوس كثيرة، كلبنان، يجتمع المستبدّون على تغميس خُبزَ السلطة والمال بدماء القتلى، وإذا بالمستبدّين جَسَد أمير الموت لا جَسد ملك الحياة ذاك الجسد الذي يصيره المحبّون الذي يُحيُون الموتى من الفقر والعزلة والوحشيّة. وتتجلّى سيادةُ المستبدّين في جرائم متعدّدة في البيئة والاقتصاد وغيرها ولكن جريمتهم الكبرى هي تبرير الجريمة؛ فتُصوَّرُ الفاشيّة التي تفرض انصياعًا كاملًا للفرد أمام الجماعة وتنتقم من الاختلاف بالقتل وتلفظ التنوّع، أمرًا ضروريًّا من أجل ألف قضيّة وطنيّة؛ ويغدو القتل -المستسهلُ دائمًا- «أهون الشرّين» لأجل حياة «القضيّة» و«تطهير» البلاد من «الخونة». وبذلك تضمحلّ فكرة احترام الإنسان، واحترام الاختلاف الإنسانيّ الذي وحده يحفظ السلام الداخليّ في المجتمع ويفتح الباب أمام ابتكار الحلول، أي على كشف الأخطاء وتصحيحها. إيمانيّا اليوم، القضيّة الأخلاقيّة الكبرى هي أن يُبقي الإنسان في قلبه على سلامة الرؤية بحيث ينتفي من ذهنه تبرير الموبقات باسم الشعارات، فيعود إلى شفافيّة لبّ الرؤى الإنسانيّة المشتركة التي تجسّدها شرائع حقوق الناس، وأساسها احترام حقّ الحياة بكرامة. القضيّة الإيمانيّة الكبرى هي رفض عبادات أصنام قادة الموت، من أجل عبادة لله حقّة تتجسّد أكثر ما تتجسّد في حبّ وجه الإنسان الآخر وخدمة الحياة فيه. هذا كلّه مسيرةٌ إلى أمام للخروج من أسر أصنام المستبدّين، وهذه المسيرة هي خوف المستبّدين الكبير، فكمّهم للأفواه وحكمهم البوليسيّ يتصاعد كلّما تصاعد خوفهم من ترك السلطة والمال، من سقوطِ وهمِ تألّههم في عيون الناس. وفي مسيرة الناس نحو لفظ طبائع الاستبداد لا بدّ مِن التمسّك بالحرّية والعدل، فمَنْ خَرَقَ أحد هذين عاد لتوليد الاستبداد ورشّح نفسه صنمًا للعبادة. ولكن كيف يلحق الناسُ بالمستبدّين؟ طبائع الاستبداد لا تقول عن نفسها أنّها كذلك، هي تقول عن نفسها أنّها مصدر الحماية والرعاية والحكمة والأبوّة والنصر والقضايا، ولكنّك تُعرفُ من ثمرتها الأولى: الظلم. والقمع ظلم، والاعتقال ظلم، وإطلاق الرصاص على التظاهرات ظلم، والتهم الجاهزة بالخيانة ظلم، ونهب الناس ظُلم، ولا ترفع الظلم المساعدات العينيّة. إنّ طبائع الظلم هي الوجه الآخر لطبائع الاستبداد. والاستبداد كالعدوى ينشر نفسه في المجتمع ليدخل العائلة والمدرسة والجامعة والثقافة حيث تنتشر الصنميّة ويستقرّ الخضوع للصنم الأعلى، وتُدفَنُ الأفكار والممارسات ليس بقوّة الحوار والحجّة وإنّما بقوّة القمع الفاشيّ. ولهذا كان الحبّ بطبيعته المحترمة للتمايز والتعاطف والحرّية شهادة إيمانيّة كبرى، ولهذا يكره المستبدّون الحبّ أو يسخّفونه ويحاولون تهميشه كعاطفةٍ لا معنى لها أو رغبةٍ عابرة، ولا يرون فيه تجلٍّ لله ذاته كما تقول الخبرات الدينيّة والإنسانيّة في بهائها. ولهذا لا بدّ من إعادة اعتبار الحبّ كقيمة كبرى في وسطنا ليكون منارتنا في مسيرة التحرّر من الاستبداد. كلّ نضال لا يستند إلى المحبّة الإنسانيّة يتوه، كما دلّنا نحرُ الشعوب والقضايا الـمُحقّة على مذابح الأصنام. يأتي عيد الفصح بحسب التقويم الغربيّ هذه السنة مثقلاً بالالتباسات. لعلّ أبرز هذه الالتباسات يكمن في أنّ الجائحة ما زالت تتحكّم في واقع الناس، ما يجعلهم يترجّحون بين حنينهم إلى الأيّام التي كانوا قادرين فيها على أن يروا بعضهم بعضاً بلا خوف مفرط من انتشار الأوبئة والأمراض، وشعورهم بأنّهم بدأوا يتكيّفون شيئاً فشيئاً مع حياة من نوع آخر تحتلّ فيها الاجتماعات الرقميّة مساحةً كبيرة. غريب هذا الشعور، وغريب هو الإنسان. فهو من جهة يدرك أنّه «حيوان» اجتماعيّ، كما كتب أرسطو ذات يوم، وأنّ التواصل بالنسبة إليه ليس ترفاً، بل هو أشبه بالهواء الذي يتنفّسه. لكنّه من جهة أخرى يستشعر أيضاً في ذاته قدرته المذهلة على التكيّف، والتي ربّما تعكس ما ترسّب في سيكولوجيا الأفراد والجماعات من حكاية طويلة من التبدّل والتأقلم حاول العلماء تلمّس بعض جوانبها في ما يسمّونه «نظريّة النشوء والارتقاء».
بمعنى ما، سيبقى الالتباس التباساً. ثمّة مؤشّرات إلى أنّ البشريّة بدأت تستعدّ لخوض غمار هذا النوع من الحياة الهجينة، والتي تزاوج بين الاجتماع الحسّيّ والاجتماع الرقميّ، وذلك حتّى لو تسنّى لنا أن نكبح جماح الجائحة بفضل اللقاحات التي طوّرها العلماء بسرعة قياسيّة في عمليّة بحثيّة وإنتاجيّة لم تعرف البشريّة مثيلاً لها في تاريخها الحديث. ولكنّ حلول عيد الفصح للسنة الثانية على التوالي في هذه الأزمنة التي يغلب فيها الحذر على الثقة والشكّ على اليقين إنّما يضع نصب أعيننا حقيقةً لم نسائلها يوماً لفرط إدراكنا كم هي بديهيّة، حتّى أتت الجائحة كي تظهر لنا أنّ البديهيّ يمكنه أنّ يبدّل موقعه في لحظة وينتقل إلى خانة اللابديهيّ. هذه الحقيقة تتلخّص في أنّنا لسنا كائنات عقليّةً فحسب، بل نحن كائنات نحتاج إلى الحسّ، إلى مصافحة الآخرين واحتضان أصابعهم وضمّهم ومعانقتهم وتلقّف نبرة أصواتهم لا على جهاز الكمبيوتر أو على الهاتف الجوّال، بل وجهاً وجه. لا شيء يغني عن هذا الشعور، لا نقل الخدم الكنسيّة عبر الصفحات الرقميّة، ولا دعوةً الناس إلى استنباط طرق للتعييد في بيوتهم من دون الذهاب إلى الآخرين. فالعيد لا يقتحم حياتك ما لم تختبر تغيّر الأمكنة. والأمكنة هي الناس الذين يقطنونها. كما أنّ معمول العيد يشكّل طقساً فريداً من دونه لا يتّخذ العيد بعداً «تجسّدياً» في حاسّة الذوق، كذلك فإنّ الحجّ إلى الوجوه في العيد، واقتران هذا كلّه بطقوسيّات لا تأتي إليك ما لم تذهب أنت إليها، ليس تفصيلاً، بل هو جزء لا يتجزّأ من المعنى الجديد الذي يسبغه العيد على تفاصيل حياتنا. في مثل هذه الأيّام من السنة الماضية، كنّا تحاول إقناع ذواتنا بأنّ الجائحة مجرّد غيمة صيف، وأنّها ستنقضي سريعاً. اليوم ندرك أنّنا ربّما غالينا في التفاؤل. فلا أحد يستطيع أن يتكهّن بما ستكون عليه الأمور في السنة المقبلة، لا العلماء ولا السياسيّون ولا ضاربو المندل. ولكنّ الخطورة هي أن نتعوّد على فائض الفردانيّة الذي فرضته علينا الجائحة فنتحوّل إلى بشرُ أقلّ إنسانيّةً وأكثر تعاسة. وهذه الحال لا ينفع معها لقاح كائناً ما كان مصدره. عيد الفصح يأتي اليوم كي يذكّرنا بأنّ الاجتماع الأصيل مرتبط بالحسّ وبأنّ العقل، كما أنّه مطالب بعدم الانفصال عن القلب، هو أيضاً مطالب بعدم الوقوع في محظور الانفصال عن الجسد. فالتواصل مع الآخرين يحتاج إلى الجسد كما تحتاج الخمر إلى وعاء كي تصبح قابلةً للتذوّق. إنّ بعضاً من خمرة العيد هو وجوه الآخرين الذين «في عيونهم ومضة إذا هم أبصرونا» (جورج خضر). عسى تكون الخوابي مثقلةً بالوجوه في العيد المقبل... أسعد قطّان شق المنظرون علينا أدمغدتنا ... وأكدوا وطالبوا وحثوا على الإيمان المطلق بيسوع المسيح ....
هذا الرجل الناصري الصالح الذي طالبني بأن أغفر لأعدائي ...والذي عاش كما قال وقال كما عاش ... شرحوا وفسروا الكثير من الآيات التي وضعتنا تحت نير الإيمان والصوم والصلاة المفروضة من قبلهم .... فإذا لم تفعل ما تقدم ... فلن ولم وسوف وحيث ولا .... وغيرها من اللاءات التي ستبعدك عن الآب والابن والروح القدس ... وشرط دخولك في علاقة مع المسيح هو ما نأمرك به فقط ..... وفقط هنا تحتمل ما كُتب من قبلهم أو ما تمكنوا من استخلاصه أو شرحه بطريقتهم عن العلاقة مع المسيح .. أحيانا كثيرة أتساءل .... ما مصدر هذا الفرح الذي يعيشه غير المؤمن ... هذه الضحكة الحقيقة ..... ولماذا المؤمن في حيينا وحارتنا ومدينتا ومجتمعنا، متعصب متجهم متسائل غيور ... ويرى مايفعله هو عين الصواب والأخر المتهم .... إلى جهنم وبئس المصير ..... ( لو فرضنا جدلا وجود ما يسمى جهنم) في العلاقة مع يسوع كما أنا قبلته .... عليه أن يقبلني أيضا ... من قال لكم بأن العلاقة هي من طرف واحد .... أريده أن يقبلني بما أنا عليه .... أنا لا أحب رائحة الشمع ...... ولا أحب الصوم عن السمنة والزيت واللحمة ..... وفي نفس الوقت أرغب في العلاقة مع يسوع ... لذا عليه انتظار الجواب مني أيضا ..... فهذه شروطي .... أنا أحب أن أفرح وأحبه لأنه قال احملوا نيري لأن نيري خفيف ..... لنتفق اذا بأن العلاقة من طرفين وفيها القبول من طرفين ..... لا شروط داخلية بعد القبول، إنما الحب هو الشرط الوحيد في هذه العلاقة كما قال الأب فرانس ( خوري حمص ) في احدى السهرات " يسوع على الصليب إما هو شخص مجنون أو هو بالفعل المسيح ابن الاب ... وانت والقول هنا للاب فرانس إما تؤمن أو لا تؤمن " فالعلاقة مع المخلص هي علاقة تبادلية قبول متبادل ..... قد يقول أحدهم ... لماذا تهاجم الصوم والصلاة وكل الطقوس والعادات .... أقول .... لست ولن أكون ضد أي ممارسة تشعرك بالراحة النفسية والفرح ... ولكن لا تقيدني بها وتشترطها للدخول بعلاقة طيبة وفرحة مع يسوع صديقي المذيع ميلاد موسى (مذيع ورئيس تحرير الأخبار الرياضية في قناة دبي) ورئيس القسم الرياضي في الرؤية ماريَّا قباره
مَرثا أم مريم؟ تَهميش أم مساواة ؟ هذا السؤال الذي يطرح نفسه في تحدٍ كبير للاستفسار عن مكانة ودور المرأة في الكنيسة الأرثوذكسيّة. تعكسُ الصورتان الإنجيليتان لكلّ من مرثا ومريم مفهومَين مختلفَين عن المرأة، وتحدّدان الأدوار المختلفة المدعوة لتؤديها المرأة في الكنيسة الأرثوذكسيّة. ورأيت من المناسب اتخاذ هاتين الصورَتين الإنجيليَتين لمقاربة المكانة الحقيقيّة للمرأة في الكنيسة الأرثوذكسية والأدوار الناشئة فيها. يقول الإنجيليّ لوقا في الإصحاح العاشر منه: "وبَينَما هُم سائرون، دَخَلَ قَريَةً فَأَضافَتهُ امَرَأَةٌ اسمُها مَرتا. وكانَ لَها أُختٌ تُدعى مَريم، جَلَسَت عِندَ قَدَمَي الرَّبِّ تَستَمِعُ إِلى كَلامِه. وكانَت مَرتا مَشغولَةً بِأُمورٍ كَثيرَةٍ مِنَ الخِدمَة، فأَقبلَت وقالت: "يا ربّ، أَما تُبالي أَنَّ أُختي تَرَكَتني أَخدُمُ وَحْدي؟ فمُرها أَن تُساعِدَني" فأَجابَها الرَبُّ: "مَرتا، مَرتا، إِنَّكِ في هَمٍّ وارتِباكٍ بِأُمورٍ كَثيرَة، مع أَنَّ الحاجَةَ إِلى أَمرٍ واحِد. فَقدِ اختارَت مَريمُ النَّصيبَ الأّفضَل، ولَن يُنزَعَ مِنها". (38-42). إنّ نموذج مَرثا يعبّر عن المعايير الشرقيّة المتوارثة، ولذلك في ذلك العصر، حُجّم دور المرأة جاعلاً إياها محافظةً على الدور التقليديّ الذي رُسم لها في متابعة شؤونِ البيت الداخليّة دون الاهتمام لأيّ أمر خارجه، كشؤون المجتمع الاجتماعيّة المختلفة. فالقرارات التي تتخذها المرأة تتعلّق فقط بشؤون البيتِ الداخلية، كالأسرة، وتربية الأولاد. في حين أنّ مسائل الشؤون الخارجيّة، كالمسؤوليات الإدارية والمالية تبقى من اهتمام الرجل. وبالتالي، بقيت المرأة مختفية في مطبخ المنزل، لها دورٌ محدّد مرسوم لها، لا يمكن الحياد عنه. كان يسوع في بيت عنيا بمثابة معلّم يهوديّ"Rabin"، ومريم كانت تجلس عند قدميه تستمع إليه. مريم ليسَ لها حقّ في وضعيّة كهذه في المجتمع الذي كانت تنتمي إليه. بل كان عليها أن تكون على غرارِ مرثا أختها في خدمةِ البيتِ والمائدة. إلاّ أنّ يسوع مدحَ مريم التي خرجتْ من المطبخ، وجَلست عند قدميه تَسمع كلامه، فأصبحتْ تلميذة. نرى هنا موقف متحرّر كليًّا ليسوع في مواجهة نظام وقوانين وشرائع كانت تُسنّ في المجتمع الذي كان يعيش فيه. حريّة يسوع المُهمَّة هذه نراها في النصّ إذ يقول: "اختارَت مَريمُ النَّصيبَ الأّفضَل، ولَن يُنزَعَ مِنها". إنّه نموذج المرأة التلميذة التي تتبَع المعلّم، على قدم المساواة مع تلاميذه الرجال. نصٌّ أنثوي بامتياز لأنّه يُقَيِّم في النهاية امرأة متحرّرة من قواعد العَمل كمدبّرة منزلٍ أو مسؤولة عن المائدة. إنّ صورة مرثا هذه تعبّر عن الدور التقليدي لمكانة المرأة، في ذلك العصر، كصّورة مهمشّة في مجتمعها. هذا النموذج غير لائق لصورة الله في الإنسان، وغير مُنصفٍ بحقِّ المرأة. ولهذا واجهه المسيح بالقول: أنّ "مريم قد اختارت النّصيب الأفضل". وهذا الأمر يتعارض مع موقف الذين، مثل مرثا، لديهم مشكلة في تقبّل أنّ المرأة سامعة للكَلمة وتخدمها. فأتى مدح المسيح لمريم دعوة للقول بالتساوي على المستوى الوجوديّ المواهبيّ أولاً، وثانياً، على المستوى الاجتماعي- المؤسساتي. فأي نموذجٍ يفضلّه المجتمع الكنسيّ اليوم، مَرثا أم مريم ؟ يبدو أنّ يسوع المسيح يقبل دور مريم. بينما الكنيسة تفضّل دور مرثا. يعكس التمايز بين دوريّ مرثا ومريم صراع في فضاءِ الكنيسة بين المؤسسة والمَوهبة. بين الدور المؤسساتي للمرأة عن الدور الكاريزماتي- المواهبي لها. فالتمييز بين المؤسسة والموهبة – الشائع في مجال البحث الاجتماعي – لا يترك الكنيسة الأرثوذكسية غير متأثرة بهذا الطرح. فعلى الرغم من الإشادة بدور مريم، إلاّ أن دور مرثا اكتسب أهمية متزايدة على مرّ العصور متبعاً دوراً موازياً في مسار مأسسة الكنيسة. فعلى المستوى اللاهوتي- المواهبي يُعترف بالمكانة المتساوية لمريم في المجتمع الكنسيّ. أمّا على المستوى المؤسّساتي - الاجتماعي تعيش مرثا أدواراً محدّدة، أدواراً تمييزية، مُهمشة وأدنى قيمة، تمّ قبولها ومأسستها على نطاق واسع في المؤسسة الكنسيّة. المستوى المؤسّساتيّ هَيمن على المستوى اللاهوتي- المواهبي. وبينما سُلطّ الضوء من خلال تعليم الكنيسة الرسميّ على المكانة المتساوية للمرأة من ناحية الخلاص والقداسة والتقديس. لكي لا يُعتبر هذا التسجيل للنماذج الأنثوية كتصنيف مبسط، سنحاول أن نرى من خلال أمثلة محددة أبعادَ كلّ نموذج. فقول بولس الرسول عن مكانة المرأة له وقع أساسيّ، فقد أكَّد في رسالته إلى أهل غلاطيّة أنّه: "لا رجل ولا امرأة، بل الجميع واحد في المسيح يسوع" (غلا3: 28). فموقف المسيح تجاه المرأة وتعامله معها، جَلَبَ لها خدماتٍ وأفعالاً (بحسب بولس الرسول- الرجل) وقَادَها إلى لعبِ دور فعَّال في الكَنيسةِ الأولى. ونتيجة لذلك، في المجتمع المسيحيّ المبكّر، أخذت النساء أدوار مبشراتٍ ومعلماتٍ وشمَّاسات (رومية16: 1-16). ومع ذلك لم يتجنّب بولس الرسول، في عصره، المأسسة. كشفت محاولاته الأولى في مسألة تنظيم الكنيسة موقف آخر تجاه المرأة داخل المجتمع. فقدّم البنية البطريركيّة الهرمية للتنظيم الاجتماعيّ المهيمن إمّا من خلال تبعية المرأة للرجل في العائلة (أفسس5:21-33)، أو من خلال حظرها عن الكلام بشكلٍ عام، وتواجدها الخامل في المجتمع الكنسيّ (1كورنثوس11: 1-16، 1 تيموثاوس2: 9-14). وهذا هو سبب وجود التناقض الظاهر في رسائله الرعوية بين إعلانه الأساسيّ بشأن المساواة بين المرأة والرجل من جهة، وموقف خضوع المرأة من جهة ثانية. وبناءً على ما سبق، تقبلّت الكنيسة الأدوار المتمايزة للرجل والمرأة، عبر نتاج الزمن وترسيخ المأسسة، فقللت وحجّمت دور المرأة في المجتمع آنذاك. فالروح التي سادت في القرن الرابع لم تعكس روح المساواة للجماعة في الكنيسة الأولى، بل سادت روح البطريركيّة الهرمية. وفي كثير من الأحيان، لم تنجح الكنيسة في التأثير على المجتمع السائد وتغييره، بل على العكس، تأثرت به وتكّيفت معه. وإن تمّ الاعتراف بالمساواة بين الرجل والمرأة، إلاّ أن هذا الاعتراف أتى على أساسٍ خلاصي أخرويّ دون أن ينتقل إلى وعي وضمير التنظيم الكنسيّ. هذا التصنيف يؤكّده حقيقة وجود تنظيمٍ أخذت فيه المرأة تنافس الرجل في الحياة الروحيّة والنسكيّة خلال الحقبة البيزنطيّة. فتمّ تقييم المرأة في الفضاء الرهبانيّ، ونافست بجدارة الرجل في النسك والزهد، وتغلّبت على ضعف طبيعتها مُكتسبة فضائل "رجولية". ففي سياق الحياة الرهبانية، يتمّ إزالة الفروقات بين الجِنسين وتحقّق المرأة التكافؤ مع الرجل. فنَمت الأديرة النسائية واكتسبت مكانة وهَيبة، وخاصّة خلال الفترة النهائية لحكم الامبراطورية البيزنطية. فهل استطاعت أن تكون مجالاً فاعلاً ومخرجاً لشخصية المرأة ومواهبها؟ لكنّ الرهبنة بقيت على هامش الحياة الكنسيّة الرعائيّة محافظة على المواهب الشخصية. ومع الوقت وتدريجياً تناقصَ النشاط العام للمرأة مع إلغاء دور الشمَّاسات. وقد ترسخ التمييز القائم بين الرجل والمرأة، ودنّى دورها ومكانتها في عهد الامبراطورية العثمانية، وذلك لأسباب كثيرة منها سياسية واجتماعية معروفة. وبعد إنشاء الدولة اليونانيّة الحديثة في مطلع القرن التاسع عشر، فصلت الكنيسة أماكن مخصصة للرجال وأماكن مخصصة للنساء في المعبد معتبرةً هذا تقليدياً ومقدَساً. وتكرر موقف المؤسّسة الكنيسة اليونانيّة تجاه المرأة في القرن العشرين (خاصّة في مطلع الخمسينيات الماضية) عندما ارتكز اهتمام الكنيسة على لباس المرأة بأن يكون بسيطاً ومحتشماً "مسيحيّاً". وأخذ خطاب المجمع المقدّس يحافظ على إنتاج الموقف التقليدي تجاه المرأة في إطار مثله الأعلى ألا وهو المؤسسة البطريركيّة الهرميّة، أيّ التسلسل الهرمي وتوزيع الأدوار بين الجنسين: الرجل مسؤول عن الفضاء العام، أيّ المجتمع والدولة، والمرأة مسؤولة عن الفضاء الخاصّ، كما هو مسجّل لها في البيت كواقع اجتماعي. وقَونَن المجتمع الكنسيّ هذا الموقف، معززاً المُعطى التاريخي- التقليدي لسيادة الرجل على المرأة. في البحث عن دور مريم في المجتمع الحديث، وخاصّة بعد الحرب العالميّة الثانية، تغيّرت مكانة المرأة ببطء وثبات. فالعوامل المختلفة، كالتحضّر، ودخول المرأة في الإنتاج الاقتصادي، وفي حقل التعليم، والحقّ في التصويت، وتغيير الوضع التقليدي للمرأة، هيأت ظروفاً جديدة لمشاركتها في الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية. فتولت المرأة أدواراً جديدة أدت بها إلى مراجعة مكانتها وقدرتها الإنتاجية الفعالة في المجتمع ككّل. وقد لعبت الحركات النسوية دوراً كبيراً في هذا الشأن. أدت هذه التغييرات الجديدة إلى إنهاك الكنيسة الأرثوذكسيّة، كما حال كافة الطوائف الأخرى، على الأقل، من الناحية النظرية لمكانة ودور المرأة في الكنيسة. وكان رأس الحَربة، في هذه الحالة المحدّدة، قضية كهنوت المرأة التي أثارها العالَم البروتستانتي. من ناحيةٍ أخرى، فإنَّ إعادة قراءة الكتاب المقدّس وفقاً لمعايير العلوم التفسيريّة الحديثة، وإعطاء أبعاداً جديدة في الأنطولوجيا والأنثروبولوجيا للوجه الأنثوي من خلال تجديد قراءاتنا للدراسات الآبائية، والرجوع إلى رؤية القرون الأربعة الأولى وإعادة اكتشاف التراث الذي أُهمل، لنعطي رؤية أرثوذكسيّة سليمة عن القضية المطروحة حول موضوع المرأة. ومن المعالم البارزة في هذا الصدد، المؤتمر الأرثوذكسيّ الذي عُقد في رودوس 30/10-7/11 1988، حول "مكانة المرأة في الكنيسة الارثوذكسيّة ومسألة كهنوت المرأة فيها". وفي موضوع مسألة رسامة المرأة، صادقَ المؤتمر على الموقف التقليديّ للكنيسة الأرثوذكسيّة بشأن هذه المسألة، مُشيرين إلى إعادة إحياء دور الشمَّاسات. وفي الوقت نفسه، نُوقش بشكلٍ عام دور ومكانة المرأة في الكنيسة الأرثوذكسيّة، وأكّد المؤتمر على المكانة الفريدة لدور المرأة في عملية الخلاص من خلال دور العذراء مريم، وفي الوقت نفسه أقرّ بضرورة مشاركة وتفعيل دور المرأة بشكلٍ أكمل في الحياة الكنسيّة. ومن هنا علينا أن نشير إلى أنّ تغيير الوضع التقليديّ للمرأة في المجتمع الحديث قد فُعّل بطريقة مزدوجة في الفضاء الكنسيّ: فمن ناحية، كما أشرنا سابقاً، قد أثرّ في الكنيسة بشكلٍّ عامّ بمسألة إعادة النظر في موضوع المرأة، ومن ناحية أخرى، مكَّنَّ العديد من النساء من الانخراط في الدراسات اللاهوتيّة. وإن أدى التغيير في الظروف الاجتماعية إلى زيادة نشاط المرأة في المجتمع بشكلٍ عام، فإنّنا نعتقد أنّ لاهوت الكنيسة الأرثوذكسيّة لا يعرقل أنشطة مماثلة في الفضاء الكنسيّ. ومن المؤسف، أنّه برغم تأكيد الكنيسة الأرثوذكسيّة بأنّ النساء والرجال متساوون في الوجود والكرامة والخلاص إلاّ أنَّ هذا الموقف لا يَظهر في الممارسة الكنسيّة اليوميّة. فمن التناقض، أن تجد المرأة الأرثوذكسيّة مشاركة في مراكز صنع القرار السياسيّ (في المجالس البلدية أو المحافظات أو الوزاريّة) ولا يهتمّ لصوتها أو وجودها في قرارات في مجالس الرعايا أو المطرانيات أو البطريركيات. فإذا أردنا أن نبحث عن تجارب من شأنها أن تساعدنا على رؤية مكانة أكثر توازناً للمرأة في الكنيسة، يمكننا استخدام ما هو إيجابي خارج المسيحيّة، وأيضًا، ويمكننا أيضاً أن نعود إلى التجربة المسيحيّة الأولى لنرى المكانة التنظيميّة والرعائيّة للمرأة فيها. على الكنيسة في عصرنا أن تبحث عن مواقف أكثر أصالة وأكثر "عفوية" حول دور المرأة، مستوحاة من الحالة المواهبيّة للمسيحيّين الأوائل. المشكلة الأساسية التي ظهرت في الكنيسة بشكلّ عام تكمن في الأهمية التي اكتسبتها المؤسسة الكنسيّة على حساب البُعد المواهبيّ. في كثيرٍ من الأحيان يتم اختزال قضية اجتماعية بالقول: تقليد "مقدّس" وبالتالي يصبح الأمر خجل ورهاب لمواجهتها "بحريّة". في تقليد الكنيسةِ علينا أن نميّز بين ما هو جوهري لا يتغيّر، عما هو خارجي ينتمي إلى البيئة الخارجية المحيطة، والتي تتغير بفعل التأثيرات واللغات والثقافات المختلفة. من المّميزات، اليوم، أنّ تتمّ مناقشة مكانة المرأة في الكنيسة، وذلك بسبب التغيرات الاجتماعيّة وتطور الحركات النسويّة التي دفعت المرأة إلى تحقيق وتحسين مكانتها. هناك حاجة ماسّة في عصرنا أن نضعَ كلام الرسول بولس "ليس ذكرٌ وأنثى، لأنّكم جميعاً واحدٌ في المسيح يسوع" موضع التنفيذ. يؤكّد القدّيس يوحنّا الرحيم- القرن السادس: "بأنّنا كلّنا متساوون، ويجب أن نصبح متساوين". ومن هنا علينا أن نفهم في الكنيسة اليوم وبشكلٍ أساسيّ، أن إعطاء الخدمة لمن يملك موهبة أو مواهب الخدمة. فإذا استطاعت الكنيسة بروح التمييز والإفراز أن ترى أنّ هذه المرأة أو هذا الرجل مدعو للخدمة بحسب مواهب الروح القدس فيه، إذ ذاك تستطيع الكنيسة أن تعطي خدمة لهذا الإنسان سواء كان رجلاً أم امرأة. تَستحق المرأة، صورة الله ومثاله، أن تُستعاد إلى ضمير التنظيم الكنسيّ، وهو ما يحتاج إلى نشوء حركة نسائيّة كنسيّة فاعلة تُمكّنها من اتخاذ أي دورٍ يناسبها بحسب قدرتها ومعرفتها وعِلمها وبحسب مواهب الروح القدس التي فيها وليس بحسب جِنسها. يضيق ذرعك بالكلام عن نظريّة المؤامرة. هناك «عقول» لا ينفع العقل معها. لم تتعلّم أن تفكّر ولا تريد أن تفكّر. تفضّل اختزال العالم، وما يحصل فيه، بحفنة من المعادلات اللا-عقليّة ربّما لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة، هذا إذا أردت أن أكون متفائلاً. الواتساب هو الوسيلة المفضّلة كي تنشر نظريّة المؤامرة نظريّاتها. فتجد الأصدقاء وأصدقاء الأصدقاء وبشراً لم يحصل لك شرف التعرّف إلى وجوههم الكالحة يمطرونك بتفاصيل نظريّة المؤامرة: من اللقاح الذي يهدف إلى التلاعب بالتركيبة الجينيّة للبشر وإصابتهم بالعقر بإيعاز من بيل غايتس، وصولاً إلى الصهيونيّة العالميّة التي تريد استعباد الناس مستغلّةً الجوائح وشيفرة اللقاحات المفبركة بين سور الصين العظيم وتمثال الحرّيّة في نيويورك.
أيّها السيّدات والسادة: القلق حيال دواء جديد يُختبر للمرّة الأولى شيء والمؤامرات الكونيّة شيء آخر. حين اخترع الطبّ في الستّينات حبّة منع الحمل، قامت قيامة الناس، ولا سيّما رجال دين، وتحوّل كثر إلى أطبّاء متضلّعين: مؤامرة على الإنسانيّة هدفها الحدّ من النسل، دواء جديد يتسبّب بالسرطان، علامة من علامات انقضاء الأزمنة. معظم هؤلاء الجهابذة كانوا من الرجال. الموضوع، إذاً، مرتبط بسيكولوجيا القمع لدى الذكور ولا علاقة له بالعلم. والدراسات التي قام بها العلماء بلا كلل طوال عقود أثبتت أنّ لا علاقة بين حبوب منع الحمل والإصابة بالسرطان لدى النساء. الأثر الجانبيّ الوحيد لهذا «الدواء» هو مزيد من الحرّيّة الجنسيّة لدى بنات حواء، والسلام. تستطيع أن تكون مع أو ضدّ. ولكن هذا شيء ونظريّة المؤامرة شيء آخر. القلق حيال دواء جديد مسألة طبيعيّة، والعقاقير الجديدة تحتاج إلى التجربة والاستقراء ومراكمة الخبرات. مرّةً أخرى للتذكير: العلماء والأطبّاء ليسوا الله الآب. هم بشر مثلنا يتعلّمون من التجربة، يخطئون ويصحّحون. لا يقومون بالتجارب على البشر، ولكن لا يمانعون أن يتلقّى المصابون بمرض عضال، إذا كان محكوماً عليهم بالموت، أدويةً تجريبيّةً إذا هم أرادوا ذلك. هذه عبقريّة العقل البشريّ وعبقريّة العلم المنبثق منه. يعترف بمحدوديّته، يجاهر بأنّه لا يعرف كلّ شيء، يخطئ ويصوّب. ويحاول في كلّ هذا أن يحافظ على الكرامة الإنسانيّة على قدر ما أوتي له من فهم. وحدهم أصحاب نظريّات المؤامرة يعرفون كلّ شيء، يفهمون في كلّ شيء، ويتنبّأون بكلّ شيء. حاولت في الأسابيع الأخيرة أن أقوم بعمليّة إحصائيّة بسيطة للأشرطة الكثيرة التي وصلتني على الواتساب والتي تروّج لنظريّة المؤامرة في ما يختصّ باللقاح ضدّ الكوفيد، وذلك بالنظر إلى مصادرها. لاحظت أنّ معظمها يأتي من أشخاص ينتمون، بطريقة أو بأخرى، إلى العالم العربيّ، علماً بأنّ لديّ، بحكم وجودي في ألمانيا، شبكة علاقات واسعة تتخطّى هذه المنطقة من العالم. يضاف إلى ذلك أنّ هذه «المصادر» تشكّل في معظمها شريحةً تتراوح بين الخمسين والخامسة والسبعين بالنظر إلى المستوى العمريّ. كيف نقرأ دلالات هذه الظاهرة؟ في تقديري، معظم هؤلاء تنشّأوا في حمى فلسفة تربويّة تضطلع فيها نظريّة المؤامرة بدور حاسم: من الكولونياليّة الإمبرياليّة المتآمرة على منطقتنا العربيّة وصولاً إلى المسعى «اليهوديّ» الصهيونيّ لابتلاع كلّ شيء والسيطرة على كلّ شيء. في هذا السياق، تحضرني ثورات الربيع العربيّ. ربّما يكون هذا الربيع في نظر بعضهم خريفاً أو شتاءً. ولكنّ تغيّر المجتمعات فعل تراكميّ. وعبقريّة الربيع العربيّ، التي ستبقيه «ربيعاً» حتّى نهاية الأزمنة، تكمن في أنّ شبابه تحرّروا من نظريّة المؤامرة وقالوا للحكّام الطغاة: المشكلة فيكم، لا في «الغرب» الذي تنسبون إليه أنّه يتآمر علينا. هذا تحوّل نوعيّ في الوعي يبنى عليه. طبعاً لم نصل بعد إلى مرحلة نقد تاريخ الطاغوت في تاريخنا عبر تشريحه وإخضاع كلّ جزيئيّة من جزيئيّاته للمساءلة النقديّة. في الشرق العربيّ، مثلاُ، تلذّذنا جميعنا بكتاب «صناعة الهولوكوست» لمؤلّفه نورمان فينكلشتاين. تعاطفنا مع الباحث اليهوديّ الذي يفنّد تعامل الصهيونيّة مع المحرقة النازيّة وشعرنا بأنّه يفصح عمّا يعتمل في دواخلنا من أفكار. ولكن لم يكتب أحد منّا حتّى اليوم كتاباً عن كيفيّة استغلال الأنظمة والإيديولوجيّات العربيّة، وحتّى بعض الفلسطينيّين، لقضيّة فلسطين، من تجميع الثروات مروراً بتفلّت السلاح وصولاً إلى قمع الحرّيّات وتقويض الدولة المدنيّة وطرد اليهود من مصر وسوريّا والعراق. متى يأتي التفكيك البنيويّ لنظريّات المؤامرة التي ما زالت تفتك بنا في الاجتماع والسياسة والدين؟ هذا يحتاج إلى جهد علميّ كثير، وإلى التسليم بمرجعيّة التحليل النقديّ في السياسة والتاريخ والاقتصاد، وإلى الاعتراف بأسبقيّة العقل على النقل وحقّ العقل في مساءلة المنظومات الغيبيّة التي تختزل ازدهار المجتمعات ببركات سوف يغدقها الله على البشر من عليائه على نحو آليّ إذا هم انصرفوا إلى طاعته والامتثال لوصاياه. أسعد قطّان انعقد الاجتماع السنوي الأوّل لمجلة نيلوس (Telos Magazine) يوم الجمعة ، 15 يناير 2021 ، وجمع الكتّاب في مجلّة Telos والزميلات والزملاء أعضاء هيئة التحرير. شاركنا أفكارنا حول التحديات والفرص الحالية في جنوب غرب آسيا وشمال إفريقيا ، واتفقنا جميعًا عمليًا على حقيقة أن المنطقة تحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى نهضة متعددة الأشكال وأن لدينا التزامًا كعلماء ومفكرين ومؤلفين وفنانين ، نشطاء ، أكاديميون ، إلخ. لإنشاء ونشر منصات الحوار، والمشاركة بنشاط في بناء مجتمعات غير إقصائيّة.
ماريَّا قباره
الثلاثاء ١٠ تشرين الثاني ٢٠٢٠ احتاجت طقوس العبادة في إسرائيل وقتاً لتنتقل من البدائية إلى مراحل متطوّرة. فكان كلّ الأفراد- الذكور- قبل النظام الموسوي، يقدّمون الذبائح شخصيّاً إلى يهوه (سفر التكوين 4:4)، ويقيمون المذابح على اسمه ويكرّسون له المكان، فيصبح مقدّساً. وصار رؤساء البيوت والقبائل يمارسون الكهنوت من الأب إلى ابنه البكر. وفيما بعد، سنَّ موسى نظام جديد، ونشأ كهنوت "محترف" في قبيلة لاوي لم تنحصر مهمته في تقديم الذبائح وإقامة احتفالات الطقوس فقط، بل في تعليم وتفسير الناموس للشعب ونقل جواب الله إليهم. وقد تحدّدت وتوضّحت طقوس شعب إسرائيل أكثر، وأُعدَّ فيها نظام طقسيّ على أسس لاهوتية متكاملة بعد أن بنى سليمان هيكل أورشليم. يكفي لمعرفة ذلك قراءة الإصحاحات التالية من سفر الخروج 30:28، وسفر الأخبار الثاني 35، وبعض الإصحاحات من سفر العدد. خضّعت العبادة اللاويّة لمفهوم "الوساطة". فوجود الكهنة أمرٌ ضروري لحفظ علاقة مستمرة لإسرائيل مع الله، وكممّثل للشعب أمامه. فلا تعترف العبادة اللاويّة بإمكانيّة الفرد أو الجماعة بدخول علاقة مباشرة مع الله أو حتّى الصلاة إليه وقبول بركته. فمبدأ الوساطة متوائم مع مبدأ الفرز ويفرضه. فالعبادة غير ممكنة إلاّ بتدّخل أشخاص مفروزين من الكهنة. وتقوم هذه العبادة في أماكن مكرّسة منفصلة كالهياكل، ضمن أعياد واحتفالات وحركات طقسية مقدّسة. ويستبعد هذا الانفصال كلّ الاشخاص والأماكن والأزمنة الدنيوية. "فالدنيوية" هنا تشكّل عائقاً في اللقاء العبادي لله. وبالتالي، يصبح الكهنة أشخاصاً من نوع آخر، أرفع من عامة الشعب. والهياكل ليست كسائر الأماكن لأنّها باتت مطبوعة بوسمٍ إلهي لا يُمس تحت طائلة تدنيس المقدسات. يسوع المسيح "العلمانيّ" في العهد القديم كان يقصد بلقب "كهنة" في صيغة الجمع اللاويّون وفي بعض الأحيان الكهّان الوثنيون. لم تعرف الأناجيل أي تقليد يصوّر يسوع في مسيرته البشاريّة في ثيابٍ كهنوتية. وتخبرنا الإصحاحات أنّ يسوع دخل إلى رواق الهيكل وليس إلى الهيكل أو قدس الأقداس. ولم يسمَّ فيها "كاهناً" بالمطلق في العهد الجديد باستثناء الرسالة إلى العبرانيّين التي تشير إلى الربّ يسوع المسيح نفسه، الذي غدا "الكاهن الوحيد" أيّ الوسيط الوحيد بين الله والبشر، فكان بذلك تمام الكهنوت. كانت الجماعة الأولى تدعو لها "شيوخاً، شمامسة، مراقبون" لم تدعو لها على الإطلاق "كهنة". ولفظة "جماعة كهنوتية" التي وردت في رسالة بطرس الأولى (2: 5-9) كما في سفر الرؤيا (1: 6، 5: 10، 20: 6)، تشير إلى جماعة المسيحييّن، وليس إلى فئة مفروزة ومختصّة بالعبادة. والتعابير: كهنوت- عبادة- تقدمة- هيكل، المستخدمة في إصحاحات العهد الجديد لا تعني عبادة منفصلة عن العالم الدنيوي، بل عبادة متجذرة في يسوع ذاته وفي كيان جموع المسيحييّن، كيان في التاريخ وكيان في العالم. وهذه التعابير استخدمت في الرسالة إلى العبرانيين كنعتٍ لموت المسيح على الصليب. وبولس الرسول نفسه يؤكّد على أنّه قام بعملٍ كهنوتي حين أعلن البشرى الجديدة للوثنييّن الذين بالإيمان أصبحوا تقدمة مقبولة مقدّسة بالروح القدس (رومية 16:15). وفي رسالته إلى أهل أفسس يشير إلى أنّ الهيكل المقدس هو كنيسة المسيح الجامعة (12:2). نقرأ في الرسالة إلى العبرانيين "واضحٌ أَنَّ ربَّنا قد طلع من سبط يهوذا، الّذي لم يتكلَّم عَنهُ موسَى شَيئًا مِنْ جهة الكهنوت" (14:7)، وهذا برهان قاطع يُبعد كلّ أصلٍ كهنوتي عن يسوع. على عكس يوحنا المعمدان، ابن الكاهن الشيخ زكريا، الذي كان ينتمي إلى قبيلة لاوي والتي يخرج منها الكهنة بالتوارث. فيسوع المسيح كان "علمانياً"، إنّ صحّ التعبير، في المجتمع اليهودي المعاصر له. وموته على الصليب كان الحدث النقيض للمقدسات إلى أبعد حدود النقض. فالمسيح المصلوب من فئة اللصوص. وعلاوة على ذلك، بالنسبة للمجتمع اليهودي، فالصليب علامة للّعنة الإلهية "لأنّ المعلّق لعنة من الله" (تثنية الاشتراع 23: 21). العبادة بيسوع المسيح إنّ يسوع المسيح، ليلة موته، احتفل مع تلاميذه بطقس الخبز والخمر إعلاناً منه بموته ذبيحة على الصليب. وهذا معنى الكلمات التي قالها ليلة العشاء السريّ عند تكسير الخبز وتوزيعه كما وتوزيع كأس الخمر: "هذا هو جسدي المقدّم من أجلكم... هذا هو دمي المهراق من أجلكم.." (لوقا 9:22-22). فالعشاء الأخير مرتبط ارتباطاً مباشراً بذبيحة يسوع على الصليب. بمعنى آخر، العبارة الطقسية ترتكز على الاحتفال بالحياة. يعيش المؤمنون الليتورجيا بطريقة رمزية وشعرية، عبادة دنيوية زمنية. إنّ عبادة المؤمنين بيسوع المسيح مؤسسة على عبادة حياة المسيح، وكليهما محتفل بهما طقسياً ورمزياً وشعرياً في الليتورجيا، وهذا ما يؤكدّه بولس الرسول في رسالته إلى رومية: "بالموت يصبح المؤمن شريكاً في موت المسيح وقيامته فيموت عن الخطيئة ويحيا حياة جديدة". يعرَّف عشاء المسيح بوضوح على أنّه ذكرى موته ومشاركة في قيامته بانتظار مجيئه الممجّد (1 كور 11: 26). ومن هنا الكهنوت المشترك بين جميع المسيحييّن هو الملوكي والأولي في الكنيسة. هو الكهنوت الأعظم. لا كهنوت آخر يفوقه، فهو يتخطى كلّ الخدمات الطقسيّة والرتب والمناصب. الجماعة المسيحيّة في العهد الجديد والكنيسة اليوم نقرأ في رسالة القدّيس بولس الرسول الأولى إلى تلميذه ثيموثاوس عن المؤهلات الروحيّة لمن يريد أن يخدم الجماعة المسيحيّة، ويكون مضطلعاً بمسؤولية عن الرعاية والتعليم وغيرها من الأمور الداخليّة الخاصّة بتنظيم الجماعة المسيحيّة الأولى (1 تيموثاوس 3). لم يذكر بولس الرسول أو غيره من الرسل والتلاميذ شيئًا عن سرّ الكهنوت أو نظام الكهنوت الحالي الممارس في معظم الكنائس المسيحيّة. ولم يُلّقبوا أنفسهم بالبطاركة أو الأساقفة أو البابوات. نقرأ عن أول اجتماع أو "مجمع" لجماعة المؤمنين في الكنيسة الأولى لمعالجة مشكلة ختان غير اليهود: "رتَّبوا أن يصعد بولسُ وبرنابا وأُناسٌ آخرونَ منْهُم إلَى الرُّسُل والمشايخ إلَى أُورشليمَ" (أعمال الرسل15: 2)، "ولمّا حضروا إلى أورشليم قبلتهم الكنيسة والرسل والمشايخ" (أع 15: 4). نلاحظ تكرار عبارة "الكنيسة والرسل والمشايخ" تأكيداً على وحدانية التعليم المسيحيّ، ووحدانية نموذج المعلّم يسوع المسيح رأس الكنيسة. لم يكن هناك قائدٌ للجماعة بمعنى الأُسقف اليوم أو البابا، بل كانت الكنيسة، أي جماعة المؤمنين، يتخذون القرارات جماعية. فالشيخ مدبرٌّ ومشرف، والشمّاس خادمٌ. وتلك الترتيبات كانت ضمن مبادئ احتاجتها الجماعة المسيحيّة الأولى لتنظيم نفسها، والعناية بأفرادها. في عهد المسيح أفرطَ الفريسيّون كثيراً في ابتكار عقائد وتقاليد وقوانين مختلفة لذا قال لهم المسيح: "أبطلتم وصيّة الله بسبب تقليدكم، يا مراؤون حسناً تنبّأ عنكم إشعياء قائلاً: يقترب إليّ هذا الشعب بفمه، ويكرمنّي بشفتيه، وأما قلبه فمبتعدٌ عنّي بعيداً. وباطلاً يعبدوني وهم يعلّمون تعاليم هي وصايا الناس" (متى 15: 6-9). فهل عادت الفريسيّة لتظهر من جديد اليوم، وتتسلّل إلى الكنيسة نفسها؟ أين كنيسة المسيح، الكائن الحيّ الذي ينمو بماء الروح القدس والحياة الأبدية التي بيسوع المسيح فتظهر ثمارها تلقائياً؟ أين هذه الكنيسة الحيّة المشتعلة بالروح القدس؟ لماذا اختفت ثمار ومواهب الروح القدس في العبادة المسيحيّة وحلّت مكانها طقوس جافّة ثابتة وشعائر دينية مبتكرة، أَلِضمان الفاعليّة والتأثير الشعبي؟ لقد عادت وظهرت الوساطة من جديد بين المسيحيّين والمسيح بواسطة الكهنوت المحترف. وقد أعيد تفسير وقراءة كثير من الأحداث التي مرّ بها التلاميذ مع المسيح على أنّهم ممثلون للكهنة فقط وليس للكنيسة كلّها وبهذا هُمِّشَ الكهنوت الملوكي؛ كهنوت جميع المؤمنين. في العهد الجديد صرنا كلّنا في المسيح ملوكاً وكهنة للآب "وجعلنا ملوكاً وكهنة لله أبيه، له المجد والسلطان إلى أبد الآبدين. آمين" (سفر الرؤيا 6:1). هذا بعد أن كان الكهنوت والنبوّة حكراً على فئة خاصّة من اليهود في العهد القديم لهم مسحة الدهن كرمز للروح القدس، وينتخبون من سبطٍ ونسل مُعَيَّنَيْن "وتمسح هارون وبنيه وتقدسهم ليَكْهَنُوا لي" (سفر الخروج 30: 30). وبعد انتهاء العصر المسيحي الأول وظهور الفلسفة اليونانية التي أثرت بشكلٍ كبير على تعاليم ومعتقدات المسيحييّن آنذاك باعتبارهم أقلّية وسط الشعوب الوثنية، تأثّر المؤمنين الجدد بمجتمعاتهم الدينيّة. وكان للإمبراطور الكبير قسطنطين التأثير الأكبر على الكنيسة، فقد ساهم في إدخال مظاهر العبادة الوثنيّة والطقوس الشكليّة إلى العبادة المسيحيّة، فقام ببناء الهياكل المسيحيّة الضخمة والفخمة للمسيحييّن وتمّ تزيينها في عصره بتماثيل تمثّل آلهة وثنيين. وبالرغم من أنّ عصر الإمبراطور قسطنطين كان راحة واستقراراً من الاضطهاد، فإنّه كان له في نفس الوقت سلبياته، ومنها تحويل الكنيسة إلى مؤسسة رومانيّة. فتحوّلت المسيحية إلى مصدر إقبال للكثير من الوثنييّن الذين رغبوا باعتناق دين الإمبراطور، فأصبحوا مسيحيّين بالاسم، وهذا التأثير ما زلنا نجني ثماره حتى اليوم. ومن ضمن تأثيرات الملك قسطنطين على الكنيسة تحويل وظائف الرعاة إلى مناصب دينية رسميّة تحت رعاية الامبراطورية الرومانيّة، فأصبح لهم ملابس خاصة، ورواتب، وامتيازات كالإعفاء من الضريبة والإعفاء من الالتحاق بخدمة الجيش الرومانيّ. تدريجياً، تحوّلت الكنيسة إلى مؤسسة أكثر دنيوية وأقل حيويّة. وما حضور الامبرطور في مجمع نيقيّة، برأيي، وهذا ما يتجاهله الكثير من المسيحيّين، إلاّ ليحافظ على مملكته من الانشقاقات. وهكذا، وبمرور الوقت، طوّر القادة الدينيّون نسج ورسم شخصيّاتهم الدينيّة والتي أصبح لها نظامها الخاصّ وملابسها المميزة. فاستعاروا الكثير من العادات المتّبعة والرموز الوثنيّة الشائعة في عصور المسيحيّة الأولى كاستعمال الماء المقدّس في التطهير والتقديس، والبخور والشموع في الطقوس....الخ. وأضفوا على مناصبهم كهيئات دينيّة الأسماء اليونانيّة: كالشمّاس والأسقف ورئيس الأساقفة والبطريرك، والبابا، وطوّروا منها وظائفهم. في رسالة بطرس الرسول الأولى نقرأ: " أطلبُ إلى الشيوخ الذين بينكم، أنا الشيخ رفيقكم.." (بط 5: 1). نعود لنقول، أنّ لا فرد واحدٌ متسلطٌ في الجماعة الأولى، فقد أشار بطرس الرسول إلى نفسه على أنّه رفيقهم في الخدمة، وليس باعتباره رئيس كهنة أو أسقف أو حتى قائد للرسل. وقد وضعنا يسوع المسيح أمام القاعدة الذهبيّة بقوله: "وأمّا أنتم فلا تُدْعَوا سيدي، لأنّ معلمكم واحد المسيح، وأنتم جميعاً إخوة. ولا تدعوا لكم أباً على الأرض، لأنّ أباكم واحد الذي في السّموات" (متى 23: 8-9). لذا نجد أنفسنا اليوم متأمّلين السّلطات الدينيّة ومدى مطابقتها لكلام الإنجيل ومسيرة يسوع المسيح الذي يقول: "أنا هو الراعي الصالح والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف" (يوحنّا 10: 11). تحتاج الحياة المسيحيّة اليوم إلى إصلاح نفسها لتكون نموذجاً انجيليّاً ناظرة إلى نور المسيح وليسَ إلى سلطان العالم. فالرعاية ليست سلطان، والخدمة ليست تسلّطًا، والشركة ليست طقسًا، والروح القدس ليس زيتًا. فعبادة المسيح والمسيحييّن ميثاق تضامن وليس موقف فرز. لا نستطيع أن نكون أسيري العادات والأفكار القديمة وإلاّ سنكون عرضة لسخرية الآخرين، ومعزولين بإرادتنا عن المحيط والمجتمع. بل علينا أن نقرأ ونبحث ونخرج عن العادة والمألوف وننتج أساليب غير تقليدية للعمل والفكر ضمن إيماننا واعتقادنا بحسب فكر يسوع المسيح الخلاصيّ. |
Telosقضايا حاليّة أرشيف
|