0 Comments
أيُ دورٍ يمكن أن تلعبه المؤسسات الدينية المختلفة في ضوء مواجهة العالم لوباء كورونا القاتل والتداعيات البنيوية التغييرية الشاملة التي ستنتج عنه وتغيِّر كلياً طبيعة الحياة البشرية وبنية العالم على امتداد الكوكب؟ أفضِّل الإجابة على هذا السؤال في إطار الدور المذكور في مجتمعات العالم العربي، فلا أحد يستطيع أن يقدِّم إجابة كونية شاملة تنطبق على كافة الأدوار والمواقف التي يلعبها الأديان ومؤسساتها حول العالم.
سأبدأ بداية غير تقليدية، بل ربما ومزعجة، للبعض بالقول أنَّه ربما من أفضل الأشياء التي يمكن لممثلي الأديان المختلفة في العالم العربي أن يقوموا بها في ضوء كارثة كورونا هو أن لا يلعبوا أي "دور". هناك سببان أساسيان لقولي الاستفزازي هذا: أولاً، الدور المطلوب الآن لإنقاذ البشرية جمعاء من الفناء المحيق هو للعلم بالدرجة الأولى والأخيرة. وحده العلم هو الأداة التي نملكها كبشر للتعامل مع الوباء، وله وحده الأدوار الواقعية، إن لم تكن الوحيدة الفعلية والناجعة، في هذه الأيام وفي ضوء بلوغ انتشار الوباء وقوة تأثيره الذروة. هذا أولاً. ثانياً، إذا كان دور المؤسسات الدينية هو أن تدعوا الناس للنكوص إلى الخرافة والخزعبلات والمعتقدات الطقوسية غير الصحيحة دينياً وعقائدياً والمؤذية للبشر طبياً، أو التي تُـعمِّم الوهم بدل العلم وتركن للخرافة والطُقس الأسطوري وليس للعقل والتعقُّل (الذي يدعو له القرآن وباقي الكتب السماوية)؛ إذا كان هذا هو الدور، والذي رأينا بعض رجال الدين المسيحي والإسلامي يمارسونه مؤخراً، فإنَّ مثل هذا الدور مدمر ولا يخدم لا الدين وعمقه وطبيعته المتعـقـِّلة ولا يخلـِّ اوجود البشري، بل هو يناقض رسالة الأديان التي تقول أنَّ الدين جاء لخدمة الإنسان وتوعيته لا لتضليله وإغراقه بالوهم. إذا كان هذا هو الدور الذي سيلعبه الدين، فمن الأفضل أن لا يلعب ممثلوا الأديان ومؤسساته أي دور في الوقت الحالي. كثرة تورط بعض المؤسسات الدينية وبعض رجال الدين بأدوار لاعلمية ولاعقلية ولامُتعـقِّـلة يغرّبها عن دورها الأصيل المتعلق بعلاقة الإنسان بذاته وبالوجود وبالحياة والمصير. باتت بعض الجهات الدينية واحدة من منابر خطابات الخرافة والفنتازيا التي سمعناها تدعوا مؤخراً الناس للاستشفاء، مثلاً، برفات قديسين أو بوصفات عطارية شعبية، أو تجبر الناس على عدم التوقف عن العبادة الجماعية أو على تناول القداس الإلهي بنفس الأداة، أوعلى زيارة العتبات المقدسة أو قبور الأولياء لنيل الشفاء المعجزي منها، وكأنَّ أي من تلك الأمور يشفي من الوباء ويقضي عليه، وكأنَّ الوباء قرار علوي إلهي هدفه أن يتمسك الناس بالوهم. إذا كان هؤلاء الممثلون للديانات وأدوارهم هو ما يعنيه لعب الأديان لدور، فأهم دور يلعبه الدين اليوم هو أن لا يلعب أي دور في كارثة الوباء. بعد تلك البداية المستفزة، دعوني أشير إلى أن المشهد العام أظهر لنا صورة موازية مخالفة للصورة المذكورة في الأعلى لعبتها المؤسسات الدينية المرجعية الكبرى في العالم العربي، من إسلامية ومسيحية. فتلك المؤسسات، وعلمائها ومفكريها ولاهوتييها، لم تتبنى الخطاب التديني الشعبي الخرافي السابق الذكر، بل قامت بنشر خطابٍ متوازن وعقلاني يدعوا الناس كي يعقلوا ويدركوا ما يجب أن لا يفعلوه وأن يبتعدوا عنه وأن يلتزموا بهذا الامتناع كتعبير عن عقلانية التدين، حتى ولو عنا هذا التوقف مرحلياً عن ممارسة الشعائر والفروض الدينية. قامت مثلاً المملكة العربية السعودية بإغلاق الحرم الشريف والعتبات المقدسة في خطوة حكيمة ومتعقلة تحترم المصير البشري وتأخذ بجدية وتقدير وثقة بالرأي العلمي الداعي للاعتزال والوقاية وتجنُّب الاختلاط. كما رأينا مؤسسات كنسية مسيحية تدعوا بشكل مسؤول لتجنُّب التجمعات في الكنائس وتناول الافخارستيا بنفس الوسائط وتجنُّب الاحتكاك الجسدي، لا بل وإقامة القداديس بدون جمهور عابدين. ما هذان المثلان سوى نموذج تعقُّلٍ ديني يحترم ويعتبر الحد الفاصل بين الدور الذي يجب أن يلعبه العلم والأدوار التي يجب فيها على الدين أن يحترم حدود اختصاصه وأن لا يتجاوزها. لدينا هنا نماذج دورٍ ديني حكيم ومتوازن يحترم حدود دور الدين ويضع نفسه مشجعاً وداعماً لأدوار لا يستطيع القيام بها، بل يعترف بدور الطرف المعني بها. هذا هو الدور الذي نحتاج لتعزيزه وتعميمه وتشجيعه من المؤسسات الدينية: أن لا ترتأي فوق ما يجب أن ترتأي، كما يقول الكتاب المقدس، بل أن تعقُل، كما يقول القرآن، وتحترم طبيعة الأديان ودورها الحقيقي ولا تفرض دوراً لنفسها في سياقٍ ليس لها فيه دور أساس. الكارثة التي يواجهها الجنس البشري برمته اليوم لادور فيها واقعي أو مباشر أو فاعل سوى للعلم والبحث العلمي التطبيقي الصرف. حتى العلوم الأخرى غير التطبيقية وغير الاختصاصية ليس لها دور فعلي ذو فاعلية في هذه اللحظة الراهنة. إن كان هناك أي دور على المستوى الإنساني والوجداني يمكن أن تلعبه المؤسسات الدينية فهو ممارسة دورها الفاعل في دعوة جمهور المتدينين في مجتمعاتها للاستماع الجدي لخطاب العلم ولاحترام دوره والركون إليه. نحتاج لمؤسسة دينية تصالح بين العلم والدين وتقدم تمايزهما وتمايز أدوارهما بشكل إيجابي ومقبول أمام جمهور المتدينين، وذلك بأن تبين أن الدين ليس بديل العلم ولا هو منافسٍ له وأنَّ الركون للعلم لا يعني التخلي عن الدين، والتديُّن لا يعني نبذ العلم. إنَّ لكل منهما دور خاص ومميز يختلف عن دور الآخر ولا بتنافس معه أو يتعارض أو يعوض عن دور الآخر. نحتاج لصوت ديني يدعونا لنَعقُـل، كما يقول لنا القرآن، ونحتاج لصوت ديني يدعونا لمعرفة الحق كما يريدنا الإنجيل أن نفعل فنتحرر من الوهم والخرافة والشعوذة. نحتاج لصوت ديني عقلاني يعرف متى على الدين أن يدلي بدلوه ويطلق العنان لصوته ومتى عليه أن يصغي ويصمت ويتيح المجال لسواه ويسمح لمن يستطيع القيام بدور أن يرفع صوته. هناك رعب وهواجس وحالة إنكار أو شلل جواني عميقة تهزُّ وتقوِّضُ دعائم التوازن والسلام السيكولوجي والذهني عند ملايين البشر حول العالم في قلب كارثة جائحة كورونا اليوم. الدين يمكنه أن يكون الصوت المهديء والراعي سيكولوجياً وشعورياً للناس للحفاظ على توازنها وهدوئها الذهني والنفساني وأن تبقي أرجلها على أرض الواقع، لا أن تهرب من الواقع إلى فضاءٍ ذهني تخيلي منغلق وشعبوي ونكوصي لا يفعل شيء سوى تدمير الإنسان من الداخل. أ.د.د. نجيب جورج عوض يحيلنا الخطاب الدينيّ في زمن الكورونا إلى التوتّر القديم بين العلم والدين، وكأنّ الناطقين الرسميّين باسم الأديان لا يتقنون لعبة الترويج لله و«صحبه» من الأولياء والقدّيسين إلاّ إذا مرّت هذه اللعبة بتكتيك نفي العلم أو التقليل من شأنه. فتارةً يصبح القدّيس فلان هو الشافي «الحقيقيّ» من الكورونا وسائر الأمراض المستعصية، وطوراً يصبح المرض الآخذ في التفشّي أحجية بيولوجيّة يضرب الله بها عصفورين بحجر واحد، فيتحدّى العلماء ويعجّزهم من جهة، ويرسل إلى الناس أمراضاً يؤدّبهم بها كي يرجعوا إليه من جهة أخرى. أمّا الطامة الكبرى، فهي حين نسمع من هنا وهناك أنّ المشكلة الفعليّة ليست المرض في ذاته، بل خوف البشر المتصاعد منه وكأنّ الاتّكال على الله في أزمنة الضيق قادر بسحر ساحر أن يبدّد خوف البشر من الموت، أو كأنّ الإيمان بالله في القلب البشريّ عمليّة ميكانيكيّة لا تعرف التقلّب والصعود والنزول. مشكلة الخطاب الدينيّ مع العلم يمكن عزوها إلى إحساس متأصّل في المُؤَسّسة الدينيّة بأنّ العلم اقتطع أجزاءاً من نطاق سلطتها. هذا الإحساس صحيح. في الأزمنة الغابرة، كان الناس يلجأون إلى المرجعيّة الدينيّة للتغلّب على أمراضهم. أمّا اليوم، فهم يذهبون إلى الأطبّاء. من وجهة النظر هذه، العلم أثبت أنّه أكثر قدرةً من شيوخ الدين على التعامل مع ظاهرة المرض الجسديّ. بيت القصيد هنا هو أنّ العلم اضطرّ الدين إلى تغيير تحديده لذاته وإلى إعادة النظر في الدور الذي يضطلع به. لم يعد شفاء الجسد يقع ضمن نطاق الدين. ضاقت رقعة اختصاص الدين وتراجعت سلطته. والحقّ أنّ العلم ما زال يتحدّى الدين إلى اليوم في عدد لا يستهان به من المجالات كالفيزياء والأنثروبولوجيا والبيولوجيا والطبّ الجسديّ والنفسيّ رغم أنّ هناك آلاف الأسئلة التي لم يتمكّن بعد من الإجابة عنها. هذا التوتّر في عمقه له مفاعيل صحّيّة على الدين. العلم لا يشفي البشر فحسب، بل يشفي المُؤَسّسة الدينيّة أيضاً من أوهامها وترّهاتها، وذلك على قدر ما يذكّرها بأنّ ليس من شأنها أنّ تسيطر على مجالات الحياة الإنسانيّة برمّتها، بل إنّ اختصاصها هو مساعدة الإنسان على التبصّر في علاقته بالمطلق والتعبير عنها وتدبّر مسألة معنى الوجود الإنسانيّ وما يخالطه من أسئلة كبرى، وأهمّها السؤال عن الموت. العلم، بهذا المعنى، قادر على تطهير الدين من شوائبه وممّا تختزنه المُؤَسّسة الدينيّة من نزعة إلى التسلّط، كما أنّ الدين وظيفته تذكير العلم بأنّ الأسئلة الأخلاقيّة الكبرى أمر يتخطّى المناهج العلميّة بحيث لا يمكن استمداد الأجوبة عنها من المختبر. الخطباء الدينيّون الذين يجدون في تفشّي وباء الكورونا، الذي يشغل العالم اليوم، أداةً للترويج لله عبر إظهاره بمظهر من يتفوّق على الطبّ في قدرته على الشفاء يخطئون الهدف، لا لأنّهم يجعلون الدين يقع من جديد في فخّ منافسة العلم فحسب، بل لأنّهم عاجزون عن الإتيان بجواب عن السؤال الثاني على قائمة الشكّاكين: لماذا يشفي الله البعض ويسمح بهلاك آخرين؟ والأكيد أنّ هذا هو السؤال الأصعب. أمّا الذين يخوّفون الناس بالمرض العضال كي «يربحوهم» إلى معسكر الله من جديد، فينسون قول أحد كتّاب العهد الجديد إنّ «محبّة الله تنفي الخوف». الله لا يريد أن يأتي الناس إليه أذلاّء خائفين، بل يريد بشراً أحراراً يأتون إليه تحدوهم المحبّة التي يجيبون بها على محبّته لهم، وتحدوهم الحرّيّة. آنذاك فقط يصبح للإيمان معنى. هذا النوع من الإيمان حقيقيّ حتّى لو خالطه خوف من الموت. لقد بيّن لنا يسوع بخوفه من الموت على جبل الزيتون أنّ هذا الخوف جزء من الطبيعة الإنسانيّة ولا داعي لإسكاته. أمّا الخوف الذي يتنافى مع الإيمان ومع المحبّة، فهو خوف الإنسان من الله حين يتحوّل الله في الوعي البشريّ إلى بعبع وإلى كابوس. ربّما يكون خيراً للإنسان أن يموت بالكورونا من أن يعبد إلهاً من هذا النوع. أسعد قطّان |
Telosقضايا حاليّة أرشيف
|