خريستو المرّ أنا أستطيع أن أكتب الآن لأنّي لست جائعًا. فعل الكتابة نفسه يعيدني إلى الخبز. لا أشكّ لحظة أنّ الخبز النازل من السماء كلماتٍ، ثمّ جسدًا معلّقًا على الصليب وقائمًا من الموت، هو الخبز الجوهريّ، وأن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. ولكن بالخبز أيضًا يحيا الإنسان. وإن كان خبزي أنا أمرًا مادّيًا بحتًا (مع أنّه ليس كذلك فهو في النفس رمز الحياة) فإنّ كلمة الله الساهر في الكتاب وفي الضمير، يُذكّرني بأنّ خبز الآخر بالنسبة إليّ هو أمرٌ روحيّ، فليس من المصادفة أن يكون الذهبيّ الفم اكتشف أنّ بعد سرّ الشكر هناك سرّ الآخر الذي يكمل سرّ المذبح، أي أنّ العمل من أجل سدّ حاجة الآخر هو متابعة للصلاة؛ فكيف له ألّا يكتشف ذلك وقد قال يسوع عن نفسه إنّه والمهمّشين والمحتاجين واحدٌ؟ المسيح هو هو على المذبح وفي جسد المهمّشين ودمهم، والكنيسة هي هي في يسوع الواحد فوق المذبح وفي المقهورين. من هنا أفهم قول أحدهم يومًا إنّه إن آمن بيسوع فلن يستطيع أن ينام؛ إنّ يسوع ذبحه الظلم وكسره التهميش منذ غرق العالم في العالم، ونسي الحاجة إلى الواحد. للمحللين الجيو-سياسيّين أن يخبروا ما يشاؤون عن حروب الناس على المصالح، وأن يصمتوا عن صراخ الضحايا، أو أن يدافعوا عن حتميّة وقوع ضحايا بريئين في معرض "الدفاع" عن الأمّة. أمّا من ركضوا خلف يسوع فلهم أن يبشّروا بأنّ كلّ وجه هو الكون كلّه، وأنّ الضحايا البريئين هم يسوع نفسه، وأنّه لا يجوز أن يُسَحَق الناس باسم أيّة أمّة وأيّ إيمان وأيّ دفاع عن أيّ صنمٍ بنته مجموعة بشريّة. أمام تبرير صلبِ الأبرياء لا يمكن لمن اتّبعوا يسوع سوى إدانة صلب الأبرياء، ولا يمكنهم إلّا أن يقولوا إنّ موت الأبرياء يدين أيّ انتصار، وأنّ يقولوا إنّ جوع الجائعين يدين حضارة الذين لا يأبهون لجوعهم، ويدين دياناتهم وإيديولوجيّاتهم. إنّ الإدانة لا تكفي، فخبزُ الآخر شأن روحيّ بالنسبة إلى من ترك قلبُه الأشياءَ للأشياءِ وتبع المعلّم. لا يمكن لمن يرى مدى الوحشيّة في النظام اللبنانيّ الذي يكشف عن وجهه البوليسيّ بشكل سافر اليوم، والذي يمعن في تمزيق أجساد الناس ونفوسهم، وفي تشويه الإيمان بأدوات الطائفيّة، وفي تجويع شعب كامل، إلّا أن يقوم بكلّ ما باستطاعته لكي يلتحق بصفوف المناضلين الشرفاء أيًّا كان دينهم وفلسفتهم، في مسيرة نضال لا عنفيّ، من أجل الدفاع عن خبز الآخر، من أجل الدفاع عن هذا العالم كهبةِ حياةٍ موجودة ليتشارك فيها الجميع. خبز الآخر يدفعنا إلى إحقاق الحقّ بواسطة العمل الجماعيّ من أجل إنهاء احتكار الخبز والحرّية، لمناهضة الذين ينهشون لحم هذا العالم ولحم الآخر. مَنْ اتّبع يسوع لا ينام قلبه، بل يحتجّ حتّى آخر رمق ضد الظالمين وأنظمتهم الجحيميّة، ولا يقول إنّ الحقّ والعدالة أمران مُرجآن إلى ما بعد الحياة لأنّه مكتوب أنّ الملكوت حاضر اليوم، وأنّ الله يعتمد علينا لنعمل معه من أجل إرساء الضوء في وجه الآخر وفي العلاقات البشريّة، من أجل إرساء تباشير الملكوت في لحم الآخر شَبعًا مادّيًّا ونفسيًّا وروحيًّا. قال يسوع لا يمكن أن تعبد ربّين الله والمال، ولو جاء اليوم لقال لا يمكنكم أن تعبد ربّين: الله وزعيمكم السياسيّ أو الدينيّ، إن عبدتم الله تنقلبْون عليهما لأنّهما ساهما ويساهمان في تجويع الآخر، وسحقه، ويحوّلان البلاد إلى مربّعِ قمعٍ بوليسيّ. في لبنان على الأقلّ لا يمكنك أن تقول: «لا أستطيع، سأصمت». خبز الآخر ودمه المسفوك في الشوارع وعلى بوّابات المستشفيات، ينادينا. دم الموجوعين يغنّي: «يا كوكب الصُّبح الـمُنير تعال». من يسمعون فليكونوا الجواب، ومن يعطشون فليأتوا معًا إليه، ومن يُريدون فليأخذوا من وجهه في الموجوعين ماء الحياة مجانًا. ومن أراد أن يشرب فليسهر، وليرفض أن يصمت، ولينتزع خبز الآخر من فم الوحش. خبز الآخر ينادينا: هل ننام أم لا ننام؟
0 Comments
كتب أسعد قطّان:
رد لفظ «حرّيّة» (eleutheria) في العهد الجديد في رسائل الرسول بولس خصوصاً. من يبحث هناك عن المفهوم المعاصر للحرّيّة، كما نظّرت له شرعة حقوق الإنسان، لن يجده بسهولة. الحرّيّة بالنسبة إلى بولس هي الحرّيّة من الخطيئة بالدرجة الأولى، وهذه حال وجوديّة تتحقّق بمعموديّة الإنسان الفرد الذي يتغطّس في الماء على صورة موت يسوع المسيح على رجاء القيامة. بهذا المعنى، المسيح هو من يحرّر الإنسان من تسلّط الخطيئة ومن الخضوع إلى قانون الفساد. ونجد صدىً لهذا المقترَب في إنجيل يوحنّا حيث يقول يسوع مشيراً إلى ذاته: «تعرفون الحقّ والحقّ يحرّركم». هذا لا يستتبع أنّ الرسول بولس لا يعرف مفهوماً للحرّيّة في معناها العالميّ، إذا جاز التعبير. فهو يعي، مثلاً، أنّ المجتمع الرومانيّ يختبر ظاهرة العبوديّة يوميّاً. لقد سال حبر كثير في تاريخ الكنيسة ولدى المفسّرين عن موقف بولس من العبوديّة. في الحرب الأهليّة الأميركيّة، استُخدم موقف بولس، الذي لا يدعو صراحةً إلى تحرير العبيد، حجّةً ضدّ إلغاء مؤسّسة العبوديّة. بهذا المقدار يمكن استغلال النصوص الدينيّة وإسقاط مفاهيم عليها تتخطّى محمولها الأصليّ. الرسول بولس كان يعتبر أنّ الخلاص الذي حقّقه يسوع يجعل المراتب المجتمعيّة باهتة، ولا سيّما أنّه، على الأقلّ في بدء بشارته، كان ما زال يحسب أنّ المسيح سيأتي ثانيةً وهو (أي بولس) بعد على قيد الحياة. ومن ثمّ، يستطيع العبيد أن يبقوا عبيداً بانتظار مجيء الربّ، لأنّ موته حرّرهم من الخطيئة. والأسياد يظلّون أسياداً بانتظار مجيء الربّ لأنّه جعلهم عبيداً له عبر تحريرهم من الخطيئة. ويتصاحب هذا كلّه مع دعوته إيّاهم أن يتعاملوا كإخوة بعضهم مع بعض على الرغم من الاختلاف في المكانة الاجتماعيّة: «ومهما يكن من أمر، فليسر كلّ واحد في حياته على ما قسم له الربّ كما كان عليه إذ دعاه الله». ولكن ماذا عن الحرّيّة التي تشير إليها شرعة حقوق الإنسان؟ هل لها أصول في الكتاب المقدّس وفي النصوص الدينيّة بشكل عامّ؟ اقتناعي أنّ هذا السؤال يقتضي جواباً بالإيجاب، على الأقلّ بالنسبة إلى الخطوط الكبرى لمسألة الحرّيّة. النصوص الدينيّة، وهذا ينسحب على التوراة اليهوديّة والكتاب المقدّس المسيحيّ والقرآن الكريم، تشدّد على حرّيّة الإنسان بالنسبة إلى المعتقد الدينيّ. هذا يشير إليه القرآن مثلاً بالآية العميقة الدلالة والأثر: «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر». ليس كلامي هنا عن الممارسة التاريخيّة. فالواقع التاريخيّ في كلّ دين من الأديان شهد إكراهاً في الدين. ولكن ثمّة نصوصاً دينيّةً محوريّةً ما زالت تخاطب ضميرنا وتذكّرنا بأنّ موقف الأديان الحقيقيّ لا يمكن أن يكون سوى الحرّيّة في اختيار المعتقد الدينيّ، وإلّا تحوّلت حكاية الله مع البشر التي توثّقها النصوص الدينيّة إلى أضحوكة، وتحوّل الله إلى مبدأ توتاليتاريّ. هذه الحرّيّة الدينيّة والمعتقديّة التي ثبّتتها الأديان التوحيديّة نطلق عليها حديثاً لفظ «حرّيّة الضمير»، وهي مكرّسة في شرعة حقوق الإنسان. ولكنّ هذه الشرعة طوّرت هذا المفهوم وبلغت به حدّ القول بحرّيّة الرأي والتعبير عموماً. هذا لا نجد له موازياً مباشراً في الأديان التوحيديّة. ولكنّ هذه الأديان تتّصف بالحدس بأنّ حرّيّة المعتقد الدينيّ لا يسوغ أن تبقى مسألةً باطنيّةً، بل يجب أن تتمتّع بالقدرة على التعبير عن ذاتها. فالمؤمن لا يعبد الله في الخفاء فحسب، بل من حقّه أن يعبده علانيةً أيضاً وعلى مرأى من الجميع إذا هم أحبّوا أن ينظروا. أليس هذا نوعاً من حرّيّة التعبير وإن كان يختصّ بالتعبير الدينيّ؟ نحن هنا، إذاً، أمام موقف دينيّ يمكن أن نبني عليه بالقرينة القياسيّة والمنطقيّة في سائر مجالات الحياة. ماذا عن أشكال الحرّيّة الأخرى؟ من اللافت أنّ الرسول بولس يعرف شكلاً آخر من أشكال الحرّيّة هو أقرب إلى المفهوم المعاصر رغم أنّه لا يلجأ إلى لفظ «الحرّيّة» للإشارة إليه، بل إلى عبارة يمكن ترجمتها بالسلطان على المشيئة الذاتيّة: «ولكن من عزم في قلبه، وكان غير مضطرّ، حائزاً سلطاناً على مشيئته الذاتيّة، وصمّم في قلبه أن يحفظ عذراءه، يفعل حسناً». يبدو أنّ السياق هنا يحيلنا إلى الخطبة بين رجل وفتاة عذراء، وإلى السؤال عمّا إذا كان عليه أن يتزوّجها فوراً أم لا. المهمّ بالنسبة إلى موضوعنا أن الرسول يومئ في هذا النصّ إلى أنّ الإنسان هو سيّد قراره. وهذا هو بالضبط ما يشير إليه حين يكتب أنّ للإنسان سلطاناً على مشيئته، علماً بأنّه لا يستخدم لفظ «حرّيّة». ولقد انتهج التراث المسيحيّ هذا المنهج أيضاً إذ ثابر على استخدام لفظ «حرّيّة» في مدلوله البولسيّ، أيّ الحرّيّة من الخطيئة، وأشار إلى قدرة الإنسان على اتّخاذ قراراته على نحو حرّ بلفظ «السلطان على الذات» (باليونانيّة autexousion)، الذي يحيل إلى حرّيّة الإنسان في اختيار مأكله ومشربه ومسكنه وطبيعة عمله والكتب التي يقرأها والهوايات التي يمارسها وصولاً إلى الأفعال المهمّة التي يقوم بها والقرارات المصيريّة التي يتّخذها. واللافت أنّ بعض معلّمي الكنيسة اعتبر أنّ حرّيّة القرار هذه هي وجه من وجوه الصورة الإلهيّة في الإنسان، حتّى إنّ القدّيس مكسيموس المعترف في حواره مع بطريرك القسطنطينيّة المخلوع بيرروس اعتبر أن تمتّع المسيح بحرّيّة القرار، الذي تكاد تؤكّده كلّ صفحة من صفحات العهد الجديد، إنّما يثبت وجود مشيئة بشريّة حقيقيّة في المسيح هي جزء لا يتجزّأ من كيانه الإنسانيّ-الإلهيّ. ولا أخالني أجانب الصواب في الاعتبار أنّ الحرّيّة هذه، ولا سيّما بالنظر إلى ما يمكن أن تتعرّض له من ضغط على يد الساسة، هي ما أشار إليه الخليفة عمر بن الخطاب في توبيخه العبقريّ لعمرو بن العاص: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحراراً؟». ينتج من هذا كلّه أنّ الحرّيّة في مفهومها الحديث، وكما نظّرت لها شرعة حقوق الإنسان، ليست نسخةً طبق الأصل عمّا ذهبت إليه الأديان من حرّيّة القرار الإنسانيّ، ولا سيّما حرّيّة الموقف الدينيّ. ولكنّ هذه الشرعة تستند بالتأكيد إلى الحدس الدينيّ بالحرّيّة الفرديّة، وتشكّل امتداداً وتطويراً له في مجتمعات حديثة لم تشغلها منذ عشرات السنين مسألة كما شغلتها مسألة الحرّيّة، ما دفع أحد المفكّرين العرب إلى الاعتبار أنّه ليس هناك قضيّة سياسيّة ومجتمعيّة على الإطلاق في حياة الإنسان إلّا قضيّة الحرّيّة. |
Telosقضايا حاليّة أرشيف
|