عرين مخّول
11.12.2022 نادت بعضٌ من فلسفات الحداثة بحريّة الإنسان، وادّعت أنّ لا مجال للإنسان أن يحقّق حريّته ما دام الله واقفًا هناك في الأعلى، متربّصًا وضابطًا للكلّ، ولذلك، كان يجب أن "يُقتَل" الله كي "تحيا" الحريّة الإنسانيّة، ف "قتلت" بعضٌ من هذه الفلسفات "الله" كي تخلق إنسانًا جديدًا، إنسان المعايير والتّطلّعات الجديدة، إنسان اللاتبعيّة؛ إنسان "الحريّة". صورة الله القاس والمُعاقِب كان يجب أن تزول حتّى يتغنّى الإنسان بالحريّة الّتي يريدها، ولكنّ هذه الصّورة عن الله، ليست بالضّرورة هي صورة الله الحقيقيّ، فالفلسفة لم تقتل إلّا الله الّذي اعتقدت أنّه الله. ولذلك، قبل أن تُقدِم الفلسفة على قتل "الله" كان يجب عليها أن تسأل "من هو "الله" الّذي يجب قتله؟". ولذلك، حتّى بعد أن ألغت الفلسفة الحديث عن الله في إطار الحريّة الإنسانيّة، بقي السّؤال: هل "الله" الّذي قتلته الفلسفة هو الإله الحقيقيّ أمّ هو صورة إنسانيّة عن إله لا وجود له بالحقيقة؟ بحث الإنسان على مرّ العصور عن الحريّة، هذا البحث عن الحريّة له العديد من التجلّيات، سأذكر بعضًا منها. إنّ الإنسان ككائن ذو ثلاث مقوّمات؛ الجسد، النّفس والرّوح، لمّا "يُنفى" في نظره وجود الله، يُقدِم على البحث عن الحريّة استنادًا على بُعدي الجسد والنّفس قطّ، متجاهلًا بشكل عامّ كلّ ما له علاقة ببُعد الرّوح، فيبحث عن الحريّة من خلال نزعاته وجوارحه الجسديّة والنّفسيّة ليس إلّا، فالبحث عن الحريّة من خلال بُعد الجسد يشمل تحقيق الحاجات والرّغائب الجسديّة، والبحث عن الحريّة من خلال بُعد النّفس يشمل العلاقة الإنسانيّة مع الآخر (مثل تحقيق الحاجة إلى التّواصل والحبّ) وتفعيل العقل، وغيرهم من الطّرق والوسائل الّتي يبحث الإنسان من خلالها عن الحريّة. أمّا بالنّسبة للبحث عن الحريّة عن طريق بُعد الرّوح، فيشمل وعي الإنسان بأنّ تحقيق الحريّة بالكامل لا يتحقّق إلّا باندماج بُعد الرّوح مع بُعدي الجسد والنّفس، وهو البُعد الّذي يقود الإنسان إلى تحقيق ذاته وحرّيّته عن طريق ما يتجاوز الإنسان جوهرًا ووجودًا؛ أي عن طريق الله. لمّا يبحث الإنسان عن الحريّة، في موضوعات وقتيّة ومتناهية تنحصر في بُعدي الجسد والنّفس قطّ، ينتج عن ذلك بحث خائب، حيث أنّ البحث عن الحريّة - وإن كان الإنسان ليس واعٍ لذلك - لهو في جوهره اختبار الإنسان علاقته باللامحدود وباللامتناهي، وبالتّالي هذا الاختبار لا يمكن أن يُحقَّق حصرًا في إطار موضوعات البحث الّتي ذُكِرَت أعلاه والّتي تنحصر في بُعدي الجسد والنّفس، أي بإطار المحدود والنّاقص؛ أي أنّ البحث عن القيمة في قيمة أقلّ منها من حيث الجوهر، قد يُحقّق جزءًا من الحريّة، ولكنّ لا يمكن أن نعتبره تحقيقًا مكتملًا للبحث. ولهذا، كثيرًا ما نرى إنساننا، وهو يبحث عن الحريّة في موضوعات وقتيّة ومتناهية من حيث الوجود، يُخفِق في اختبار الحريّة الّتي يتوقها في الحقيقة فيستزيد في البحث، ويغيّر طرائق بحثه ووسائل تفتيشه عن الحريّة، ومع كلّ استزادة يختبر إخفاقًا جديدًا. إنّ البحث عن الحريّة في موضوعات وقتيّة وناقصة من حيث الوجود لطالما ترك الإنسان مع إحساس النّقص والخيبة، فكم بالحريّ لمّا يبحث الإنسان عن هذه الحريّة في هذه الموضوعات مع اعتراف مباشر بعدم مرجعيّة الله، بل وبمعرفة واثقة أنّ الذّات الإنسانيّة هي محور الوجود ومرجعيّته؟ ولذلك، في هذا الصّدد سأقول، أنّ وحده اللامتناهي من بمقدوره أن يوفّر للإنسان الحريّة الّتي يتوقها الإنسان بالحقيقة، لأنّه وحده ينبوع الوجود والموجود، الّذي يخلق الأشياء من فيض ذاته ويهبها القيمة والجوهر، وبالتّالي هو صاحب الحريّة الحقيقيّة، الّتي لا تنتهي بانتهاء موضوعها، بل تبقى وتُنبِت في مُختبرها ثمار الانفتاح على الحقيقة المطلقة قُدمًا. وبالتّالي، إنّ الله الّذي يتواجد بالحريّة ويخلق من فيض الحريّة لا يمكن أن يتناقض وتوق الإنسان لنيل الحريّة، ولا يمكن -منطقيًّا- أن يشكّل عائقًا في وجه الإنسان لنيل حريّته، بل على العكس تمامًا، وجود هذا الإله ضروريّ حتّى يتسنّى للإنسان أن ينكشف له، أي للحريّة، وبالتّالي حتّى يحقّق ذاته بالله، أيّ بالحريّة. ولذلك، أعتقد أنّ بحث الإنسان عن الحريّة مع ادّعاء الاستقلاليّة الإنسانيّة المطلقة، بعيدًا عن مؤسّس لهذه الحريّة، لطالما ترك الإنسان مع خيبات كثيرة اختبر من خلالها أنّ طعم الحريّة الّتي يذوقها مع كلّ تجربة بحث جديدة هو طعمٌ زائل، خائب ومؤلم. وبالتّالي، إنّ تلك الحريّة لم تكن سوى وهمًا أوهم الإنسان أنّه كائن حرّ من تلقاء ذاته، وبمقدوره أن يوفّر لذاته، بمحض ذاته، ملء الحريّة والإشباع الوجوديّ. وبالإجمال، حينما ادّعت بعض الفلسفات، أنّ الله لهو سارق الحريّة من الإنسان وليس محقّقها، وأنّه يجب إزالة هذا الإله عن خارطة البحث الإنسانيّة، لم تقصد الفلسفة سوى صورة إنسانيّة عن إله غير حقيقيّ؛ إله يقف بالمرصاد، يُعيق المسيرة الإنسانيّة وينتظر من الخليقة أن تعبده ليس إلّا، بينما الله الحقيقيّ؛ إله الحريّة الّذي يخلق من فيض الحريّة ويُطلق الإنسان للوجود حرًّا، ويدعوه إلى تحقيق ذاته به وليس طمس ذاته به، لم تقتله الفلسفة يومًا، ولم تتعامل مع وجوده أصلًا، لأنّها لو تعاملت مع وجوده لما كانت قتلته لأنّ وجوده لا يتعارض مع حريّة الإنسان، بل على العكس تمامًا، هو أساسها ومكمّلها. ولذلك، إنّ "الحريّة" الّتي تقتل باسم الحريّة منبع الحريّة وواهبها لهي سجنٌ تزجّ المعرفة به ذاتها حتّى تغدو جهلًا، لأنّها توهم الإنسان أنّه الكائن الحُرّ الّذي يحمل من تلقاء ذاته واكتفاءً بذاته جميع المقوّمات الّتي تؤهّله لأن يكون سيّد وجوده ومنبع حقيقته وملئه، بينما في الحقيقة، وإن كان الإنسان له دورًا أساسيًّا في صنع تاريخه من خلال حريّة الاختيار الّتي وُهبَت له، فإنّ التّنعّم بالحريّة لا يمكن أن يكون من خلال "قتل" الله والبحث عنها في الموضوعات المتناهية والنّاقصة لها من حيث الجوهر. أعتقد أنّه حان الوقت أن يغيّر إنسان اليوم، إنسان المناداة بالحريّة والتّحرّر، إنسان الفرديّة والاستقلال المطلق، إنسان الانعتاق من كلّ تعريف عن ذاته خارج الذّاتيّة الإنسانيّة، موقفه من الله، وأن يمعن بدقّة في "شكل" الله الحقيقيّ؛ الله الّذي أحبّ الإنسان حُبًّا جعل منه إنسانًا مصلوبًا على صليب الحُبّ النّازف، الله الّذي لم يكتف في أن يهب الحريّة فحسب، بل قَبِلَ أن "يُدان" و "يُطرَد" من قِبَل الإنسان بموجب هذه الحريّة الّتي وهبها له في الأصل، والّذي لم يكن هذا سوى دليلًا ساطعًا على أنّ الله لم يكن يومًا عائقًا في وجه الإنسان لنيل حرّيّته، بل مانحًا لهذه الحرّيّة ومتألّمًا من جرّاء عواقب استعمال هذا الحرّيّة الّتي منحها من فيض حرّيّته. هذه هي الحريّة الّتي وُهبَت إلى الإنسان فتمسّك بها إلى الحدّ الّذي ألغى بها مؤسّسها، وادّعى في النّهاية، باسم الفلسفة والمنطق، أنّ الله عائقٌ في وجه الإنسان ويجب أن يُمحى عن وجه المعرفة والتّوق، هذا الإله، إله الحريّة الغافرة، هذا هو الله الّذي لم تقتله الفلسفة يومًا، هذا هو الله الّذي لم نلتفت إليه بينما صوت الإنسان فينا يصرخ: أين هي الحريّة؟
0 Comments
ميلاد أسعد موسى، إعلامي
عن طريق الخطأ، واثناء نقاش عابر مع أصدقاء مقربين، طرحتُ فكرة قديمة جديدة على ذهني وهي عدم معمودية المسيح على يد يوحنا المعمدان استنادا لانجيل يوحنّا، فالنص الإنجيلي في يوحنا لا يذكر ابدا بأن المسيح قد عمد على يد يوحنا بل وتشعر بأن يوحنا من خلال النص لايعرف المسيح ابدا، وفي النص ذاته لم يتبادلا أي كلمة، أبدا. وهذا هو نص إنجيل يوحنا 1 : 29 "وفي الغد نظر يوحنا يسوع مقبلا اليه، فقال:«هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم! هذا هو الذي قلت عنه: ياتي بعدي، رجل صار قدامي، لانه كان قبلي. وانا لم اكن اعرفه. لكن ليظهر لاسرائيل لذلك جئت اعمد بالماء». وشهد يوحنا قائلا:«اني قد رايت الروح نازلا مثل حمامة من السماء فاستقر عليه. وانا لم اكن اعرفه، لكن الذي ارسلني لاعمد بالماء، ذاك قال لي: الذي ترى الروح نازلا ومستقرا عليه، فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس. وانا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله». وفي الغد ايضا كان يوحنا واقفا هو واثنان من تلاميذه، فنظر الى يسوع ماشيا، فقال:«هوذا حمل الله!». فماذا لو ان المسيح لم يعتمد على يد المعمدان؟ ما تأثير ذلك على بشارة المسيح وعلى إيمان المؤمن. فركائز الإيمان لا تعتمد على معمودية ولا على قبر فارغ. التعلق بشخص المسيح يحتاج لعلاقة، لمسيرة طويلة، لفهم ونقاش . الغريب في الأمر ان أي معلومة خارج نطاق المألوف يتم التصدي لها بقوة وعنفوان المؤمن الصنديد، بالإضافة إلى تكفير فوري، مع غياب للحجة والنقاش والبرهان. يسوع بنفسه كان ملك الحجة والمنطق. أنسينا عندما قال اعطوا مال قيصر لقيصر، ومال الله لله، وغيرها من المواقف القوية ليسوع المسيح. هل تحوّلَ التعليم الكنسي إلى تعليم هجومي مغلق لايقبل النقد، ولا يقبل النقاش؛ على الأقل هذا ما نلمسه في بعض التعاليم والمناهج الكنيسة التي للأسف تقدم للأطفال. فتغرس فيهم الأمان بالمعلومة وتبعدهم عن البحث الدقيق. لينشأ جيل من فكر واحد، هجومي، لايقبل أي رأي مختلف، أو يدعي القبول لفترة ثمّ، وما أدراك ما ثم؟ في ظل ما نعيش من انفتاح وتطور وتكنولوجيا ووسائل تواصل اجتماعيّ، يجب على كنائسنا وعلينا ان نطور أساليب التعايش مع الزمن وتطوير المجابهة لاطفالنا ( شباب الغد ) لكي لا نكرر خطأ الجمود العقائدي. وأختم مع القديس بطرس الرسالة الأولى – 3 – 15 " كونوا في كل حين مستعدين للرد على كل من يطلب منكم دليلا على الرجاء الذي فيكم" ملاحظة: دائما عيني هي عين الإعلامي والصحفي والناقد، لا ادعي الصلاح والكمال، انا مجرد باحث، أكتب كما أرى. |
Telosقضايا حاليّة أرشيف
|