عرين مخّول
7 - 12- 2021 لطالما كان السّؤال عن التّجسّد المسيحيّ يعرض معضلة منطقيّة في وجه الإنسان، ولطالما تعدّدت الأسئلة الكثيرة فيما يخصّ هذه المعضلة فتسائلوا السّائلين: "هل يُعقَل أنّ الألوهة صارت إنسانًا؟ وكيف يمكن للمنطق الإنسانيّ أن يقبل بهذه الحقيقة؟" "لماذا يجب على الله أن يتجسّد؟". إنّ لاهوت التّجسّد المسيحيّ هو من بين الأمور الّتي جعلت من المؤمنين بالإله الابراهيميّ المُتعالي شكّاكين في المسيحيّة ككلّ، لا سيّما لأنّ المسيحيّة تعرض إلهًا يتجسّد، يتألّم ويُصلب، وهذا بالذّات ما يُناقض صور ة الإله الابراهيميّ المُتعالي والّذي لا تشوبه شائبة. لن أخوض هنا في الحديث عن لاهوت التّجسّد مقابل شكوك المثاليّين المؤمنين بتعالي الألوهة، بيد أنّ هذه الشّكوك شرعيّة وتستدعي البحث والفهم العميق، ولكنّ بغضّ النّظر عم مدى حقيقة الله وعن مدى حقيقة التّجسّد وعن مدى حقيقة المسيحيّة، فإنّ فعل التّجسّد المُفاجئ والغير مفهوم ضمنًا، يضعنا أمام أسئلة كبيرة: لماذا قرّر المُتعالي أن يصير منّا وفينا؟ ما يكمن وراء الفعل الّذي جعل من الله؛ "ضابط الكلّ" ومُهندس العالم أن يتحوّل إلى طفلٍ صغيرٍ، لا يقوى على إعالة نفسه، لا يقدر على تدفئة ذاته، فيأتي الحيوان، بكلّ ضعفه، حتّى يدفئه من برد العالم الّذي هو -الأوّل- وضعه؟ وبالتّالي، كيف يمكن للقوّة أن تصير "ضعفًا"؟ كيف يمكن للجبروت أن يغدو "هشاشة"؟ كلّ هذه الأسئلة، والّتي هي بالعمق لاهوتيّة، تقودنا في الأساس إلى البحث في عمق الّذات الإلهيّة، صفاتها وقابليّتها للأمور، ولكنّها من جهة أخرى، فإنّها تأتي أيضًا لتكون أبسط من مسائل لاهوتيّة، إنّما مثالًا قابلًا للفهم والتّطبيق إنسانيًّا، وهو أنّ فعل التّجسّد في عمقه، بغضّ النّظر عن مدى حقيقته وعن مدى حقيقة الله، هو فعل سأسمّيه "إزالة غشاء"، ففي هذا العالم، عالم النّظرات، المثاليّات الشّكليّة والصّور الاجتماعيّة، أعتقد أنّنا بأمسّ الحاجة إلى أن ننظر وأن يُنظَر إلينا بحقيقيّة، ففي حين أنّ نظراتنا نحو الآخرين ونظرات الآخرين إلينا مبنية على الأحكام المسبقة، الانطباعات الجاهزة الّتي ترسمها لنا مواقع "التّواصل" الاجتماعيّ، والقوالب الغشّاشة الّتي يصنعها لنا المجتمع بما فيه من عاداتٍ وتقاليد، يتوه الإنسان في هذه الحالة، في عين نفسه وفي أعين الآخرين، فتتكوّن الأغشية الكثيرة، ويصير صعبًا على كلّ فرد منّا أن يرى نفسه وأن يرى الآخر بحقيقيّة. فعل التّجسّد، أتاح للإنسان أن ينظر إلى نفسه، يقبل نفسه ويحبّها، ليس لأنّ الإنسان قادر بمحض قواه المشروطة على فعل ذلك، بل لإنّه يفترض أنّ من يعلوه في الجوهر، وهو الإله، صار إنسانًا ونظر إليه من مستوى يُوازي إنسانيّته، فقبله كيفما هو وأحبّه كيفما وصار مثله مخلوقًا صغيرًا مشروطًا في الزّمان والمكان، متألمًّا ومن ثمّ "ميّتًا"، فتحوّلت القصّة من قصّة ذات بعدين، مستويين ونظرتين، إلى قصّة ذات بعد واحد، مستوى واحد، ونظرة واحدة. باعتقادي إنّ فعل التّجسّد هو فعل حوار ، نظرة متساوية وانقلاب في مفاهيم العلاقة الصّحيحة، فلا يمكن لجوهران مختلفان في الجوهر، أن يتحدّثا ويصلا إلى نتائج تُرضي الطّرفين وهما المختلفان في الجوهر، ولذلك، على المستوى اللاهوتيّ، كان يجب، إمّا أن يصير الإنسان قدّيسًا أو إمّا أن يصير الإله إنسانًا، أمّا على المستوى الإنسانيّ الانثروبولوجيّ، ففي حياتنا اليوميّة وفي علاقاتنا مع الآخرين، لا يمكن أن يتكوّن حوار سليم دون إزالة غشاء الأنا المزيّف عند المُتحدِّث والنّاظِر ومن ثمّ عند المُتحَدَّث إليه والمنظور إليه، فحتّى يتكوّن رباط إنسانيّ سليم بين الطّرفين، يجب إزالة غشاء الأنا الّذي فينا والولوج إلى الآخر بشفافيّة، بانفتاح وبحبّ، ومن هناك، سيزيل المُتحَدَّث والمنظور إليه، أي الآخر، الغشاء عن عينه ليرى نفسه بعيون نفسه وبعيوننا، وعندها، فقط عندها، سنتجاوز معًا ما كوّناه لأنفسنا من أغشية وحواجز ، وسنبني رباط إنسانيّ حقيقيّ أساسه الشّراكة، الحوار والانفتاح. عالمنا بحاجة إلى وجوه حقيقيّة وإلى نظرات شفّافة وإلى قلوب منفتحة، وباعتقادي "حدث" التّجسّد الّذي يستدعي الشّكّ والسّؤال الفلسفيّ هو أيضًا "حدث" يستدعي البحث في معانيه الإنسانيّة، أبعاده التّطبيقيّة ورسالته الوجوديّة.
0 Comments
![]() صَدَرَتْ عَنْ مَكْتَبَةِ "دَارِ اَلشَّامِلِ" اَلنَّابُلسِيَّةِ اَلْفِلَسْطِينِيَّةِ اَلْمَرْمُوقَةِ... كتاب "مَفَاتِيحُ اَلسَّمَاءِ" للشاعر وهيب نديم وهبة. تنشر تيلوس الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْ مَسْرَحَةِ الْقَصِيدَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَوقَفَني الصُّوفِيُّ، على حافّةِ الْحُلُمِ. كانَ هائمًا يَحمِلُ نَهرَ الْأُردُنّ، مُتَوَّجًا مِنَ السَّمَاءِ، قَاصِدًا أَرضَ كِنعَانَ.. وَكُنْتُ صَاعِدًا إلى مَلَكُوتِ الْكَلِماتِ. يُخَاطِبُنِي الْغَمَامُ وَيُحَاوِرُنِي الصَّدَى، وَيَنامُ تَحتَ يَدِي مَدىً مِنَ الْأَزمِنَةِ. لُغَتِي الرِّيحُ، وَقَمِيصِي جَسَدُ الْأَرضِ، وَجَسَدِي جِسرٌ بَينَ آلِهَةِ الشَّمسِ وَجِهَةِ الشَّرقِ، وَخُيولِي الْجَامِحَةُ بَينَ الرِّيحِ وَالْغَمَامِ تُسَابِقُ سَيِّدَ الدُّنيَا الزَّمَانَ. وَالْمَكَانُ يَضِيعُ فِي مَتَاهَاتِ السَّرابِ. قَالَ الصُّوفِيُّ: اُنظُرْ، هُنَاكَ.. يَنَامُ الْيَمَامُ عَلى شُرفَةِ الْبَحرِ.. وَالْبَحرُ كَالْأَطفَالِ يَلهُو بِنَشِيدِ الْكَائِناتِ. الْبَحرُ يَرسُمُ بِالْأَصَابِعِ وَالتَّلوِين. الْأفقُ أَبعَدُ مِنْ مَدَاهُ الْأفقُ أبعدُ مِنْ مَدَاهُ تَعزِفُ غَابَاتُ الرِّيحِ، نَايَاتُ الغَيابِ، وَصَولَجَانُ الزَّمَانِ وَفَرَسُ التَّاريخِ الْهَادِرِ: الْفَرَحُ الْعَاصِفُ آتٍ. يا مَلَكوتَ .. التَّاجُ الْأزرَقُ فِي يَدَيْكَ.. وَفِي عَينَيكَ شَكلُ الْأَرضِ وَرَوائِعُ الْبَدِيعِ مِنْ صُوَرِ الرَّمزِ وَخَفايَا الْكائِناَتِ. لِلسَّمَاءِ أَبوابٌ تُفتحُ؟ وَكَيفَ تَخرُجُ الْمَلائِكَةُ كَأَسرابِ الْحَمَامِ؟ كَيفَ يَا جَوهَرَةَ الدُّنيا وَسَيِّدَةَ السَّعْدِ.. الْغَيبِ.. تَأتِينَ مِنْ مُدُنِ الْقَدَاسَةِ؟ قِدِّيسَةً.. وَالْقَداسَةُ رُوحُ الطُّهرِ، وَالْبَرَاءَةُ. الشَّمسُ وَهجُ النَّارِ، تَصحُو وَتَغفُو نُورًا عَلى مَلاعِبِ الْقَمَرِ وَأَنتِ الشَّمسُ وَالْقَمَرُ وَالنَّاصِرَةُ، كَمِثلِ اللّيلِ الْمُعَلَّقِ فَوقَ أُرجُوحَةِ الرِّيحِ يَهتَزُّ، يَرقُصُ بِالْفَرَحِ، يَتَدَفَّقُ النَّبعُ حَتّى الْمُنحَدَرِ.. وَيَهتِفُ حَتّى الْحَجَرُ وَالصَّخرُ وَالتُرابُ وَالشَّجَرُ تَرتَدي الْأَرضُ ثِيابَ الْقَدَاسَةِ يَجُوبُ جُبرائِيلُ، يَسبَحُ فِي بَحرِ الْفَضَاءِ، يَخفِضُ لَهُ الرَّبُّ أَجنِحَةَ الْوَحْيِ وَيَهبِطُ كَالرِّيحِ الْعَابِرِ بَينَ الْوَحيِ وَالْبِشَارَةِ.. بَاعِثًا فِي حُقُولِ الْحُرُوفِ وَكُرُومِ الْكَلِمَاتِ وَبَسَاتِينِ اللُّغَةِ الْبِشَارَةَ.. تَنمُو وَتُزهِرُ فَوقَ الصَّخرِ وَالشَّجَرِ.. تَعلُو فِي فَضَاءِ الرَّبِّ الْمُعجِزَةُ، الرَّمزُ، وَالرَّمزُ فِي كُتُبِ الْأَنبِياءِ بَلاغَةٌ.. سَيَأتِي حَامِلًا، قَنادِيلَ الْكَلِمَاتِ، وَمِصبَاحًا مِنْ بَلّورٍ وَالنُّورُ.. مَلاكُ السِّرِّ الْمَوعُودِ، يَملكُ سِرَّ الْأَسرَارِ وَمَفَاتِيحَ السَّمَاواتِ يُخرِجُ الْعَتَمَةَ مِنَ الْعُقُولِ وَيَزرَعُ بُذورَ الْمَحَبَّةِ. هُوَ الْقَادِمُ، سَيِّدُ النُّورِ وَالْأَرضِ وَالْعَاصِفَةِ قَادِمٌ جَسَدًا وَأُسطُورَةً.. وَأَنتِ الْقِدّيسَةُ، بِالرَّمْزِ بِلا دَنَسٍ تَحمِلينَ وَبِالْمُعجِزَةِ تَلِدينَ. يَا رَقصَةَ الْخُيُولِ الْعَابِرَةِ مِنْ مَرجِ ابنِ عَامِرٍ حَتّى النَّاصِرَةِ.. أسمَعُ صَهيلَ الْخَيلِ الرَّاكِضَةِ وَرَاءَ جَوقَةِ الْمَلائِكةِ. السَّيدَةُ، اللّيلَةَ تُغادِرُ النَّاصِرَةَ، وَالطَّرِيقُ مَسَافَةٌ مَا بَينَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ قَالَ الصُّوفِيُّ: أَسرَابٌ مِنَ الْمَلائِكَةِ، كَانَتْ عَلى مِيعَادِ فَرَحٍ.. طُيُورٌ تَطِيرُ فِي نَشِيدِ الْحَيَاةِ. الأُفُقُ النُّحَاسِيُّ الْمُشتَعِلُ بِالنَّارِ، يَهمِسُ لِلْبَحرِ.. الْأَرضُ حُبلى بِالْخِصْبِ. يَتَجلّى مَجْدُ الرَّبِّ مُعجِزَةً فِي بُستَانِ امرَأةٍ.. تَهَبُ الْعَالَمَ دُونَ دَنَسٍ.. مَنْ يَمسَحُ بِدَمِهِ عَنّا خَطايَانا.. امرَأةٌ تُعيِدُ لِلنِّساءِ مَجدَ الأُمُومَةِ.. وَيَسمُو زَمَنُ الْمَرأَةِ فِي تَجدِيدِ الْحَياةِ. هيَ ثَورَةُ الأَرضِ.. عَاصِفَةٌ في تَبدِيلِ ثِيابِ الْفُصُولِ عَادِلَةٌ في تَبدِيلِ ظُلُماتِ النَّفسِ بِنَارِ الْعَدلِ وَمَجدِ أَفراحِ الْمَحَبَّةِ.. هِي ثَورَةُ الْأَرضِ وَمَقدِرَةُ الْخَالِقِ عَلى الْخَلقِ وَالْمَوتِ وَالانبِعَاثِ. ميلاد موسى
يروق لبعض الذين أعرفهم وأجالسهم وأسامرهم وأحادثهم وأناقشهم أن يطلقوا صفات على الآخرين أو ينسبوا صفات لأنفسهم . هذا صالح هذا كاذب هذا غشاش هذا لعيب هذا يستحق النار ( إن وجدت ) هذا للجنّة ( إن وجدت ) مع حجز مسبق وذاك وتلك واولئك .... الخ وأحياناً بل بأوقات كثيرة يكتفي البعض بممارسة لعبة القداسة المشروطة ، التي تبقى قداسة حتى توزيع الحصص والجوائز، والتي يجب أن يحصلوا على غالبيتها كونهم صالحين طالحين غارقين في روحهم الالهي . لاحظت مؤخراً أن كل ما تقدم ينقسم لقسمين: 1- قسم لامبالي ...سعيد قد يكون صاحب ( شلوة ) أي يتكلم بظرافة على الآخرين ، لا يوزع الأمتار في الجنة والنار، قد يكون هنا وهناك أو قد يكون جيد ( بحسب المقياس الاجتماعي ) او سيئ ولكن لسنا بمعرض الحديث عن هذا النوع. 2-- القسم التاني من ادعى الصلاح والقداسة. الأول لا يهمه تقسيم الناس وفرزها بينما الثاني ….يريد ويرغب ويقاتل من أجل مفهوم وجود الجنة والنار …. بنظره هو صاحب الجنة أما المختلف عنه الذي يمارس حياة مختلفة لا يوجد فيها الفريسية وغيرها، يجب بالضرورة أن يكون مصيره جهنم وبئس المصير والحرق والإبعاد والإذلال. هذه الأفكار المتداخلة السفسطائية الملعونة التي تراودني احياناً تأخذنا معاً الى مثال ضربه المعلم الأول ( السيد المسيح ) في انجيله – متى 20 ( عمال الكرم ) مَثَلُ ملكوتِ السَمواتِ كَمَثَلِ ربِّ بيتٍ خَرَجَ عِندَ الفَجرِ ليستأْجِرَ عَمَلَةً لِكَرْمِه . فاتَّفَقَ معَ العَمَلَةِ على دينارٍ في اليومِ وأَرسَلَهُم إلى كَرْمِه . ثُمَّ خَرَجَ نَحْوَ الساعةِ التاسِعَةِ فرأَى عَمَلَةً آخرينَ قائِمينَ في الساحةِ بطَّالينَ . فقالَ لَهُم : " اذهبوا أَنتُم أَيضاً إلى كَرْمي , وسأُعطيكُم ما يحِقُّ لكُم." فذهبوا . وخَرَجَ أَيضاً نحوَ الظُهرِ ثُمَّ نحوَ الثالثةِ بعدَ الظُهرِ , ففَعَلَ مِثلَ ذلِكَ . وخرَجَ نَحوَ الخامِسَةِ بعدَ الظُهرِ , فلقِيَ أُناساً آخرينَ قائميَن هُناك . فقالَ لهُم : " ما لَكُم قائمينَ هَهُنا طَوالَ النهارِ بطَّالينَ ؟ " فقالوا لَـهُ : " لمْ يستأجِرْنا أَحَد ." قالَ لهُم : " اذهبوا أَنتُم أَيضاً إلى كرمي ." ولمَّا جاءَ المساءُ قالَ صاحِبُ الكَرْمِ لِوكيلهِ : " أُدعُ العَمَلَةَ وادفعْ لهُم الأُجرةَ مُبتدِئاً بالآخِرين مُنتَهياً بالأَوَّلين ." فجاءَ أَصحابُ الساعَةِ الخامِسَةِ بعدَ الظُهر وأَخَذَ كُلٌّ مِنهُم ديناراً . ثُمَّ جاءَ الأَوَّلونَ فظنُّوا أَنَّهُم سيأْخُذونَ أَكثَرَ مِنْ هؤلاءِ . فأَخَذَ كُلٌّ مِنهُم أَيضاً ديناراً. وكانوا يأَخذونَهُ ويقولونَ متذمِّرين على ربِّ البيتِ : " هؤلاءِ الذين أَتَوا آخِراً لم يعمَلوا غيرَ ساعةٍ واحِدةٍ , فساويتَهُم بنا نحن الذين احتملْنا عِبءَ النهارِ وحرَّهُ ." فأَجابَ واحِداً مِنهُم : " يا صديقي ما ظَلَمتُكَ. أَلَمْ أَتَّفق معَكَ على دينار ؟ خُذْ مالَكَ وانصرِفْ . فهذا الذي أَتى آخِراً أُريدُ أَنْ أُعطيَهُ مِثلَكَ . أَفما يحِقُّ لي أَنْ أَتصرَّف بمالي كما أَشاء ؟ أَمْ عينُكَ حَسودٌ لأَنِّي كريم ؟ " لاحظتم معي مدى انزعاج الأولون …..كيف لا وهُم من مارسوا وعملوا وتعبوا في حقل الصلاح فيجب ان ينالوا اكثر من غيرهم. آخر العمال لم يفكر حتى في القسمة ولم يفكر هل يتساوى أجره مع الذي قبله ... أخذ بفرح ومضى ..... . مثل يسوع هذا فيه الكثير من الغل والكثير من الصور الحياتية التي نعيشها اليوم . يقول دستويفسكي " اذا لم يكن الله موجود فكل شيء مسموح " صورة عن الإله الشرطي ... صورة عن ما نريد أن يكونه الله أن يعاقب ويعطي المكافآت... ويرضى ولا يرضى ... صورة طفولية عن علاقة الانسان بالإله ...... فالشريعة والقوانين ضرورة لمرحلة معينة .... فعند النضج .... يتحرك البالغ بحرية كبيرة ويتسامى عما تقدم من يصر على وجود الجنة وجهنم؟ إنه مدعي الصلاح فالصالح حقاً... والقديس حقاً.... يتمتع بحرية ... حرية الروح القدس التي تقول على لسان استفيانس لا تحسب عليهم هذه الخطيئة. هي كمريم اخت لعازر التي ارتضت بالنصيب الصالح وأهملت كل ما تبقى. كتب أسعد قطّان:
كانت الجائحة لا تزال في بدئها حين ذهبت نهى إلى الاجتماع المسائيّ للجوقة الكنسيّة التي انضمّت إليها قبل سنتين. الأخبار عن اقتراب فرض الحجر الصحّيّ كانت تتطاير في الهواء مثل ذرّات الثلج التي غطّت الطبيعة في النصف الثاني من شهر يناير. راحت تتساءل عن مصير الاجتماع الأسبوعيّ، الذي بات يعني لها الكثير، إذا ما تبيّن أنّ الأخبار المتطايرة في الهواء ليست مجرّد شائعات. وفيما هي تنتظر التئام عقد المرتّلات والمرتّلين، أخذت تتبادل أطراف الحديث مع سيّدة في العقد الثامن من عمرها كانت تنتظر مثلها وصول الأعضاء الآخرين. قالت لها المرأة المسنّة إنّها تفضّل المجيء إلى الاجتماع على الانزواء في البيت خوفاً من انتقال عدوى المرض إليها: «لماذا يظنّ كلّ واحد منّا أنّه يستطيع أن يعيش إلى الأبد»؟ مضى زمان طويل منذ ذلك الحديث القصير. غصّت غرف العناية الفائقة بالمرضى الذين يحتاجون إلى آلات التنفّس. كاد المحظور أن يقع، أي أن يضطرّ الأطبّاء إلى اتّخاذ قرار بإسعاف بعضهم، فيبقى على قيد الحياة، والإعراض عن بعضهم الآخر، فيموت اختناقاً. إنّ قراراً كهذا لا يتّخذه الأطبّاء في العادة إلّا في الحالات القصوى، كالحرب السوريّة، مثلاً، التي عاشت نهى بعض فصولها قبل أن تأتي إلى ألمانيا مع أختها سيراً على الأقدام العام ٢٠١٥. هناك، في حلب، كان الأطبّاء في المشافي الميدانيّة يتّخذون قرارات كهذه على نحو شبه يوميّ. لكنّ نهى تدرك أنّ هذا ليس مبرّراً لعدم الامتثال إلى قرار الدولة بالتزام الحجر واحترام التباعد. فالحياة قيمة في ذاتها، ويجب المحافظة عليها. الحياة قيمة في ذاتها، صحيح. ولكن أيّ حياة؟ وماذا يبقى من هذه الحياة إذا تحوّل الناس إلى مجرّد فئران يمكثون في جحورهم، وصار الإنسان الفرد، في نظر الحيوانات الاجتماعيّة الأخرى التي تحيط به، مجرّد أداة لنقل العدوى؟ تذكّرت نهى كلمات المرأة العجوز في الجوقة التي انفرط عقدها، وساورتها أفكار تكاد تستحي بها حتّى حين لا تسرّ بها إلى سوى ذاتها: ما هو الأفضل لهاتيك العجائز اللواتي يعشن وحيدات في شققهنّ؟ أن ينفردن ويذبلن من فرط الوحدة خوفاً من الفيروس، أم أن يتعاملن معه كما كنً يتعاملن قبلاً مع الأمراض الأخرى الكثيرة التي تنتقل بالعدوى، كالأنفلونزا مثلاً، أي من دون حجر وكمّامة؟ راحت نهى تطرح عن مخيّلتها مثل هذه الأفكار المعتوهة. فالأولويّة اليوم هي للمحافظة على الحياة. وبين الحياة ونوعيّة الحياة، عليها أن تختار الحياة، وألّا تفقد الرجاء في قدوم أيّام أفضل ينتصر فيها الطبّ على الجائحة، فتعود دورة الحياة إلى سابق عهدها. تشبّثت نهى بهذه الفكرة الجميلة خوفاً من أن تفلت من يديها وتتحوّل إلى سراب. لكنّ الأفكار المعتوهة ظلّت تتسرّب إلى عقلها وتضاعف حيرتها. متى تزول الأقنعة التي صارت هي القاعدة في الشوارع والمكاتب والحافلات؟ كم يخسر وجه الإنسان من بريقه حين لا نستطيع رؤية شفتيه وأنفه، ولا نعرف متى يبتسم وكيف يتكلّم! تخال نفسك في مستشفًى لا حدود له ولا قرار. حين بدأ الحجر، زعموا أنّه ستكون له انعكاسات إيجابيّة على البيئة والحياة العائليّة. لكنّ الصحيح أيضاً أنّ الناس باتوا أشدّ قساوةً وأكثر قابليّةً للتشاجر بعضهم مع بعض، ولعلّهم أصبحوا أيضاً أكثر كسلاً وتعرّضاً للسمنة. العلاقات الاجتماعيّة مهدّدة بالتآكل والانهيار. طلبة المدارس يتسكّعون في بيوتهم وينخرهم ضجر التعليم الافتراضيّ. طلبة الجامعات يؤمّون صروحاً معظم مكتباتها مقفلة، ومطاعمها أشبه بالسجون، وأساتذتها يستغلّون أيّ فرصة لتحويل محاضراتهم «الحضوريّة» (لكونها مشتقّة من فعل حضر) إلى استعراضات رقميّة «غيابيّة». فكرّت نهى في هذا كلّه. ثمّ عاودتها كلمات المرأة الطاعنة في السنّ: «لماذا يظنّ كلّ واحد منّا أنّه يستطيع أن يعيش إلى الأبد»؟ فكّرت أيضاً في الجوقة التي تبعثرت، في مشافي حلب الميدانيّة التي كانت تجترح الحياة في قلب الكارثة. وفيما هي تخطو خريستو المرّ
الثلاثاء ٧ كانون أوّل/ديسمبر ٢٠٢١ أمام وقائع التحرّش الجنسيّ في الكنيسة، وبالإضافة إلى نظريّات المؤامرة التي تتّخذ موقفًا مُسْبَقًا مُكذِّبًا لأيّ دليل عقليّ، يردّد العديدون آيات إنجيليّة مثل "لا تدينوا كي لا تدانوا" و"مَن منكم بلا خطيئة فليرمه بحجر"، داعين الجميع إلى الصمت لأنّه لا يجوز "الحُكم" على أحد، فكلّنا خطأة ونحتاج للتوبة؛ وينسى هؤلاء أمرين، الأوّل يتعلّق بالحياة الإيمانيّة والآخر بالحياة برمّتها. من ناحية الحياة الإيمانيّة، التوبة تحتاج أوّلا إلى الاعتراف بالخطيئة والتي تعني حرفيّا «إخطاء الهدف»، أي تحتاج أن يعترف المعتدي بارتكاب فِعلٍ يُبعِدُ الإنسانَ عن هدف اللقاء المـُحِبّ بالله والناس. هذا الاعتراف يشكّل أوّل خطوة للتوبة، بعدها تأتي خطوات عسيرة لتغيير نمط الحياة، لتغيير الذهنيّة (وهذا معنى كلمة التوبة) كي يعود الإنسان للتصويب نحو الهدف والسير إليه. وبالطبع عندما يتعلّق الأمر بالتحرّش، فهناك انحرافات يعاني منها المتحرِّش عليه مواجهتها مع أصحاب الاختصاص وذلك لكي يحظى بفرصة لتغيير نمط حياته. إنّ الروحَ القدس لا يكفي لحلّ الأمور، فالله أعطانا عقلا لنفكّر به ونتوسّل به الحلول بناء على تحليلنا للأوضاع، ولهذا عندما نريد السفر من بلد إلى بلد، مثلًا، لا ننتظر فِعل الروح القدس وإنّما نستقلّ الطائرة أو القطار أو السيّارة بحسب تحليلنا للأوضاع والوسائل المناسبة. إنّ الاعتماد على الروح القدس في كلّ شؤون الحياة يخالف أبسط قواعد المنطق؛ فحضور الروح ليس حضورًا سحرّيًا يرفع عنّا المسؤوليّة، إنّ الروح يساعد المسيحيّين كي يبقوا كنيسة، أي يرعى علاقتهم بالله. وحتّى في هذا المضمار هو لا يفعل سحريًّا، بل يحتاج إلى تعاون الإنسان، والإنسان يتعاون مع الروح بإعمال المواهب الإنسانيّة التي منحه إيّاها الله، ومنها العقل الذي يدلّنا على الوسائل الفضلى لتغيير الأوضاع. هكذا، نستخدم الصلاة، كما نعمل، ونمارس الرياضة، ونستخدم النتاج العلميّ؛ وهذا الأخير يدلّنا أنّ حالات التحرش تحتاج لمواجهة بوسائل غير الصلاة (علم نفس، قضاء كنسيّ، قضاء مدنيّ، تغيير البيئة والتربية، إلخ.). وهذا يُفضي بنا إلى الأمر الثاني الذي ينساه الداعون إلى الصمت انطلاقا مِنْ أنّنا كلّنا خطأة نحتاج إلى توبة، ألا هو أنّ الحياة أوسع من الحياة الكنسيّة بالمعنى الضيّق للعبارة. هؤلاء يختصرون الحياة الإنسانيّة بتشعّبها وغناها بالحياة الكنسيّة، أي بالخطيئة والتوبة. إنّ اختصارهم هذا لا يُخالف فقط أبسط قواعد المنطق، وإنّما يخالف أيضًا ممارساتهم اليوميّة، فالحياة اليوميّة غير قائمة فقط على الخطيئة والتوبة. مَن مِنَ هؤلاء لا يُخضِعُ نزوات أطفاله لعقاب ضروريّ من أجل بنيانهم (حرمانهم من اللعب لمدّة من الوقت مثلًا)، أو لا يدّخر ما أمكنه من أجل مصاريف التعليم، أو الطبابة؟ مَن مِن هؤلاء لا يذهب إلى طبيب إنْ شعر بمرض؟ مَن مِنهم لا يلجأ إلى المدرسة ثمّ إلى مهنيّة أو جامعة لكي يتعلّم ويجد وظيفة؟ مَن منهم إذا سرقه أحدهم، أو خدعه في الأعمال، أو قتل ابنته أو ابنه لا يرفع دعوى قضائيّة لاستعادة حقّه أو معاقبة المجرم واستعادة الشعور بشيء من العدالة؟ إنّ وضع الخطيئة والتوبة لا يختصر كلّ الخبرات الإنسانيّة، ولا يختصر كلّ الحاجات الإنسانيّة، ولا كلّ الأبعاد المتعدّدة للحياة (تسلية، غذاء، لقاء بالأصدقاء، حاجة للشعور بالأمان، حاجة للشعور بالعدالة، إلخ.). إنّ اختصار وضع المتحرِّش بوضع الخاطئ الذي يحتاج إلى توبة هو محوٌ لواقع أنّ المتحرّش يحتاج أيضا لقضاء (قصاص) وربّما لعلاج (علم نفس). كما أنّ التركيز المطلق على فكرة الخطيئة والتوبة في مواجهة التحرّش، هو محوٌ لواقع الطرف الآخر، الطرف الذي اعتدي عليه. وهو محوٌ يناسب جدّا كلّ مَن لا يريد أن يُتعِب رأسه ونفسه ليتصرّف بمسؤوليّة في هذا العالم. لكن بحسب الإنجيل (طالما هؤلاء يحبّون كثيرا الإنجيل ويسوع)، الإنسان في هذا العالم مسؤولٌ عن غيره وليس فقط عن نفسه، وأولاده، وعائلته، وأشيائه. إنّ محو مشاعر وكرامة وإنسانيّة ووجود الـمُعتدى عليهم من الفكر والقلب، والتركيز المطلق على الـُمعتدي وعلى فكرة التوبة-الخطيئة، هو تصرّف مضادٌ للإنجيل ولوصايا يسوع، هو أفيونٌ يخدّر فيه المتديّنون قلقهم أمام فداحة النذالة الدينيّة المحيطة بهم، أفيون يُغلق عليهم في فرديّة هي عكس معنى الكنيسة-الجماعة. بتحويل فكرة التوبة-الخطيئة إلى أفيون يرتاح الكثيرون من الشعب والمسؤولين إلى أنفسهم، مشاركين بالنذالة الدينيّة بصمتهم عنها، ولكن غير معترفين بتلك المشاركة ولا تائبين عنها، ونرجو إلّا يقول لهم يسوع يومًا: اذهبوا عنّي أيّها الملاعين كنتُ مُتَحَرَّشا بي ولم تعضدوني. لقد شهد قيام عدد من أعرق الحضارات في العالم، وكان الروم يسمّونه «بحرنا» (mare nostrum). فالأبيض المتوسّط كان يتوسّط أراضي الإمبراطوريّة الرومانيّة كما لو كان بحيرةً كبيرةً تضفي على الأقوام الساكنين في مداها الجغرافيّ كثيراً من التبادل التجاريّ الآتي من البحر، وبعضاً من هويّة مشتركة يستمدّها الناس من سرّ الماء ومن سحره.
سقط الحلم الرومانيّ بالبحيرة التي تتوسّط الإمبراطوريّة حين تدفّقت القبائل الجرمانيّة على جزئها الغربيّ إبّان القرن الخامس. فنصبت مضاربها في إيطاليا وإسبانيا وعلى سواحل إفريقيا الشماليّة. صارت القسطنطينيّة العاصمة الفعليّة لإمبراطوريّة الروم، لكونها كانت، بمعنًى ما، في منأًى عن الزلزال الجرمانيّ الذي عصف بالغرب. وفي خضمّ هذا التيه، تحوّل أسقف روما إلى ما يشبه الرمز الوحيد لارتباط الغرب بالفكرة الرومانيّة القديمة، وصار الجسر الذي يصل المدينة الخالدة بأختها روما الجديدة على ضفاف البوسفور. ولقد اقتضى تنصير الجرمان «البرابرة» مئات السنين وجيشاً من الرهابين واللاهوتيّين. حاول القيصر جوستنيان (٥٢٧-٥٦٥) الالتفاف على تقلّبات التاريخ واستعادة الحلم الرومانيّ القديم عبر انتصارات سجّلها، هنا وهناك، على الوافدين الجدد. إبّان القرن السادس، كاد الأبيض المتوسّط يرجع إلى روميّته الصرف بحيرةً في وسط بقعة جغرافيّة تكاد تكون دائريّةً على الرغم من تعرّجاتها. لكنّ منطق الحراك التاريخيّ كان أقوى من منطق الإيديولوجيا، إذ ما لبث الإسلام، الدين الجديد الذي حيّر لاهوتيّي المسيحيّة بفعل سرعة انتشاره، أن ضرب جذوره على سواحل المتوسّط مكرّساً الشرخ الدينيّ بين شمال المتوسّط وجنوبه. نقول منطق الحراك التاريخيّ، ونعني بذلك الهجرات المتعاقبة. قدر الأبيض المتوسّط أن يكون مسرح هذه الهجرات من الجرمان مروراً بالعرب والنورمان، أي رجال الشمال، الذين بلغ مدّهم جنوب إيطاليا، وصولاً إلى اليهود والهجرات الحديثة في زوارق الموت سعياً إلى أوروبّا الجميلة في حضارتها واحترامها للإنسان. وقبل هؤلاء، هاجر الكنعانيّون والكريتيّون واليونانيّون وحوّلوا بعض شواطئ المتوسّط إلى منارات للعلم والثقافة، وهاجرت في «بحرنا» أقوام لا تعدّ ولا تحصى. ومن ثمّ، فإنّ الإيديولوجيا الرومانيّة التي أرادت تحويل الأبيض المتوسّط إلى بحيرة في خضمّها لم تكن إلّا مجرّد استثناء في حكاية التاريخ. فقدر الأبيض المتوسّط أن يكون مدًى جغرافيّاً يؤسّس للتداخل بين الدول والأقوام وتتحكّم الهجرات المتعاقبة في مصائر ناسه. غير أنّ الشعوب المحيطة بالأبيض المتوسّط تتنكّر اليوم لهذا التاريخ المصنوع بالهجرة. على إيقاع صفقات سياسيّة تسعى إلى تقاسم الغاز والنفط، تسوّر ذاتها كي تحمي ذاتها من «البرابرة» الجدد الذين تسوقهم إليها زوارق الفقر والخوف والحروب، فتنكر على الأبيض المتوسّط هويّته التاريخيّة التي تقوم على التبادل، لا التجاريّ فقط، بل الإنسانيّ والثقافيّ أيضاً. فالتاريخ يعلّمنا أنّ الغرباء لا يحملون معهم حزنهم فحسب، كما تغنّي فيروز، بل كذلك كلّ ما تختزنه نفوسهم من خبرات ومهارات تغتني بها المجتمعات التي يلتجئون إليها. وهذا يولّد ثقافةً وتجدّداً وتعاضداً إنسانيّاً لا غنى عنه إذا نحن أردنا ألّا تتحوّل المعيّة الإنسانيّة إلى صحراء. حين يأتي أسقف روما فرنسيس إلى قبرص واليونان، فهو يأتي إلى بقعة جغرافيّة مغرقة في روميّتها، كما كتب القدّيس غريغوريوس الصانع العجائب عن بيروت ذات يوم. فناسها ما زالوا يعيشون من المدّ الثقافيّ العظيم الذي صنعته القسطنطينيّة، روما الجديدة، حبّاً للفلسفة وإمعاناً في لغة الرمز وتصوّفاً ونوراً ينبعث من ضياء الأيقونات، التي قيل عنها إنّها نوافذ على السماء. الإسلام العظيم، حتّى في نقده للمسيحيّة، كان وريث هذا المدّ عبر استدخاله الفلسفة في عمارته الفكريّة والتماعات أهل التصوّف فيه. لكنّ البابا فرنسيس يأتي أيضاً حاملاً في جبّته تراث أسلافه الصيد على كرسي روما، الذين بذلوا الغالي والنفيس كي يجعلوا من هجرة الجرمان إلى غرب الإمبراطوريّة القديمة هجرةً «إنسانيّةً» عبر تنصيرهم ونفحهم بروحانيّة الإنجيل الذي يحبّ الغريب ويدافع عن المسكين، وذلك على الرغم من الشرخ اللاهوتيّ الذي راح يرتسم بين شرق إمبراطوريّة الروم وغربها منذ القرن السابع. ومن ثمّ، هو يأتي أيضاً كي يذكّر أراخنة الأمم بأنّ الهجرات التي يشهدها الأبيض المتوسّط اليوم يمكنها أن تصبح باباً لإعادة اكتشاف معنى الأخوّة الإنسانيّة بين البشر، وبين الأديان التي مهرت بختمها صفحة هذا البحر العظيم. يذكّر، لأنّه مجرّد مذكّر، وليس «عليهم بمسيطر»، كما يقول القرآن الكريم. ولعلّه يصطحب معه، كما قبل بضع من السنوات، في طريق عودته إلى أصغر دولة في العالم عدداً من الذين مخرت زوارقهم الصغيرة عباب الأبيض المتوسّط طمعاً في حياة تكثر فيها الإنسانيّة ويقلّ فيها العسف. طبعاً، قوّة هذه الرسالة لا تكمن في قدرتها على فرض ذاتها، بل في رمزيّتها التي تحيل إلى ضرورة التراحم بين البشر لئلّا نتحوّل إلى مجرّد قطيع ذئاب تتناتش اللحم في ما بينها على ضفاف الأبيض المتوسّط. |
Telosقضايا حاليّة أرشيف
|