عرين مخّول
7 - 12- 2021 لطالما كان السّؤال عن التّجسّد المسيحيّ يعرض معضلة منطقيّة في وجه الإنسان، ولطالما تعدّدت الأسئلة الكثيرة فيما يخصّ هذه المعضلة فتسائلوا السّائلين: "هل يُعقَل أنّ الألوهة صارت إنسانًا؟ وكيف يمكن للمنطق الإنسانيّ أن يقبل بهذه الحقيقة؟" "لماذا يجب على الله أن يتجسّد؟". إنّ لاهوت التّجسّد المسيحيّ هو من بين الأمور الّتي جعلت من المؤمنين بالإله الابراهيميّ المُتعالي شكّاكين في المسيحيّة ككلّ، لا سيّما لأنّ المسيحيّة تعرض إلهًا يتجسّد، يتألّم ويُصلب، وهذا بالذّات ما يُناقض صور ة الإله الابراهيميّ المُتعالي والّذي لا تشوبه شائبة. لن أخوض هنا في الحديث عن لاهوت التّجسّد مقابل شكوك المثاليّين المؤمنين بتعالي الألوهة، بيد أنّ هذه الشّكوك شرعيّة وتستدعي البحث والفهم العميق، ولكنّ بغضّ النّظر عم مدى حقيقة الله وعن مدى حقيقة التّجسّد وعن مدى حقيقة المسيحيّة، فإنّ فعل التّجسّد المُفاجئ والغير مفهوم ضمنًا، يضعنا أمام أسئلة كبيرة: لماذا قرّر المُتعالي أن يصير منّا وفينا؟ ما يكمن وراء الفعل الّذي جعل من الله؛ "ضابط الكلّ" ومُهندس العالم أن يتحوّل إلى طفلٍ صغيرٍ، لا يقوى على إعالة نفسه، لا يقدر على تدفئة ذاته، فيأتي الحيوان، بكلّ ضعفه، حتّى يدفئه من برد العالم الّذي هو -الأوّل- وضعه؟ وبالتّالي، كيف يمكن للقوّة أن تصير "ضعفًا"؟ كيف يمكن للجبروت أن يغدو "هشاشة"؟ كلّ هذه الأسئلة، والّتي هي بالعمق لاهوتيّة، تقودنا في الأساس إلى البحث في عمق الّذات الإلهيّة، صفاتها وقابليّتها للأمور، ولكنّها من جهة أخرى، فإنّها تأتي أيضًا لتكون أبسط من مسائل لاهوتيّة، إنّما مثالًا قابلًا للفهم والتّطبيق إنسانيًّا، وهو أنّ فعل التّجسّد في عمقه، بغضّ النّظر عن مدى حقيقته وعن مدى حقيقة الله، هو فعل سأسمّيه "إزالة غشاء"، ففي هذا العالم، عالم النّظرات، المثاليّات الشّكليّة والصّور الاجتماعيّة، أعتقد أنّنا بأمسّ الحاجة إلى أن ننظر وأن يُنظَر إلينا بحقيقيّة، ففي حين أنّ نظراتنا نحو الآخرين ونظرات الآخرين إلينا مبنية على الأحكام المسبقة، الانطباعات الجاهزة الّتي ترسمها لنا مواقع "التّواصل" الاجتماعيّ، والقوالب الغشّاشة الّتي يصنعها لنا المجتمع بما فيه من عاداتٍ وتقاليد، يتوه الإنسان في هذه الحالة، في عين نفسه وفي أعين الآخرين، فتتكوّن الأغشية الكثيرة، ويصير صعبًا على كلّ فرد منّا أن يرى نفسه وأن يرى الآخر بحقيقيّة. فعل التّجسّد، أتاح للإنسان أن ينظر إلى نفسه، يقبل نفسه ويحبّها، ليس لأنّ الإنسان قادر بمحض قواه المشروطة على فعل ذلك، بل لإنّه يفترض أنّ من يعلوه في الجوهر، وهو الإله، صار إنسانًا ونظر إليه من مستوى يُوازي إنسانيّته، فقبله كيفما هو وأحبّه كيفما وصار مثله مخلوقًا صغيرًا مشروطًا في الزّمان والمكان، متألمًّا ومن ثمّ "ميّتًا"، فتحوّلت القصّة من قصّة ذات بعدين، مستويين ونظرتين، إلى قصّة ذات بعد واحد، مستوى واحد، ونظرة واحدة. باعتقادي إنّ فعل التّجسّد هو فعل حوار ، نظرة متساوية وانقلاب في مفاهيم العلاقة الصّحيحة، فلا يمكن لجوهران مختلفان في الجوهر، أن يتحدّثا ويصلا إلى نتائج تُرضي الطّرفين وهما المختلفان في الجوهر، ولذلك، على المستوى اللاهوتيّ، كان يجب، إمّا أن يصير الإنسان قدّيسًا أو إمّا أن يصير الإله إنسانًا، أمّا على المستوى الإنسانيّ الانثروبولوجيّ، ففي حياتنا اليوميّة وفي علاقاتنا مع الآخرين، لا يمكن أن يتكوّن حوار سليم دون إزالة غشاء الأنا المزيّف عند المُتحدِّث والنّاظِر ومن ثمّ عند المُتحَدَّث إليه والمنظور إليه، فحتّى يتكوّن رباط إنسانيّ سليم بين الطّرفين، يجب إزالة غشاء الأنا الّذي فينا والولوج إلى الآخر بشفافيّة، بانفتاح وبحبّ، ومن هناك، سيزيل المُتحَدَّث والمنظور إليه، أي الآخر، الغشاء عن عينه ليرى نفسه بعيون نفسه وبعيوننا، وعندها، فقط عندها، سنتجاوز معًا ما كوّناه لأنفسنا من أغشية وحواجز ، وسنبني رباط إنسانيّ حقيقيّ أساسه الشّراكة، الحوار والانفتاح. عالمنا بحاجة إلى وجوه حقيقيّة وإلى نظرات شفّافة وإلى قلوب منفتحة، وباعتقادي "حدث" التّجسّد الّذي يستدعي الشّكّ والسّؤال الفلسفيّ هو أيضًا "حدث" يستدعي البحث في معانيه الإنسانيّة، أبعاده التّطبيقيّة ورسالته الوجوديّة.
0 Comments
Your comment will be posted after it is approved.
Leave a Reply. |
Telosقضايا حاليّة أرشيف
|