ماريَّا قباره في العقود الأخيرة قيل وكتب الكثير عن كهنوت النساء، في مساعٍ عامّة وخاصّة مع هذا الموضوع المعاصر المثير للاهتمام. وكلّ الكنائس التي ترفض رسامة النساء أو سيامتهنّ الكهنوتيّة تواجهها تحدّيات اجتماعية وتساؤلات كثيرة عن الأسباب الأساسيّة التي تحول دون رسامة النساء. وفي هذا المقال سوف أعرض هذه المشكلة باقتضاب من وجهة نظر أدبيّة وتاريخية واجتماعية ولاهوتيّة. يقول اللاهوت العقائديّ أنّ الكهنوت أحد أسرار الكنيسة السبعة. وهذا الترقيم جاء من زعيم المدرسة الغربيّة توما الإكويني. وبعد القرن 14 سمحت الكنيسة الأرثوذكسيّة بشكل غير مباشر بانتشار هذا الترقيم، وفيما بعد فُرض بشكلٍ أساسي في اللاهوت الأكاديميّ. وقد جاءت التحليلات اللاهوتيّة الأكثر نضجاً عن الأسرار في عَملين لنيقولاوس كاباسيلاس: (الحياة في المسيح، وتفسير القداس الإلهيّ). يقول: لا يوجد، بالطبع، أي تلميح لترقيم الأسرار المقدّسة. بل على العكس من ذلك، يشدّد كاباسيلاس على أنّ جسد الكنيسة بكليّته يشار إليه في الأسرار المقدّسة. بمعنى آخر، الكنيسة ذاتها كجسد، في اجتماعها، هي حياة أسراريّة، مشاركة في مجد الملكوت الإلهيّ. الكنيسة تُستعلن بالأسرار. ولا يمكن لسرّ من الأسرار المقدّسة أن يكون مستقلاً بذاته، طالما أنّ الأسرار هي أعضاء وليست أجزاء في الجسم الكنسيّ. في تبنّي لغة وظائف أعضاء الجسم البشريّ، تصبح المعمودية ولادة، والميرون حركة، وسرّ الشكر الإلهيّ غذاء. لا يستطيع أحدٌ أن يتحرك ويتغذّى ما لم يُولد! لذلك، فإنّ ترقيم الأسرار في عدد محدود يعني العزلة أو استقلال أحد الأسرار، وبالتالي هذا يجرّ إلى فكرة أنّ الأسرار ميكانيكية أو سِحرية. الأسرار هي طقوس دينيّة تعبّر من خلالها الكنيسة عن خبرتها الروحيّة العميقة. وقوام هذه الخبرة هو التقاء الإنسان بالله من خلال شخص يسوع المسيح الذي يستمرّ حضوره في الكنيسة على مدى الزمن. وكلّ من الشمامسة والكهنة والأساقفة يؤدّون طقوس الأسرار كخدّام لهذه النعمة المعطاة، ومن خلال وضع اليد واستدعاء الروح القدس يتقبلون مواهب هذه الخدمة. بعبارة أخرى، في الكنيسة الأرثوذكسيّة لا يوجد كهنوت أسراري أو نظام كهنوتي كما في العهد القديم، لأنّ المسيح وفق العقائد المسيحيّة قد ألغاه، وكما ينصّ العهد الجديد فإنّ المسيح قد غدا "الكاهن الوحيد" أيّ الوسيط الوحيد بين الله والبشر، فكان بذلك تمام الكهنوت. وكلّ أعضاء الكنيسة يشتركون في كلّ الأسرار المقدّسة، وهذه المشاركة ضروريّة لأداء طقس السرّ (على الأقل وجود شخصين أو ثلاثة). هذا هو معنى الكهنوت الملوكيّ، أو كمصطلح جديد- للأفضل أو للأسوأ- هو الكهنوت العام. لقد ساد تقليد طويل الأمد في استبعاد المرأة عن الكهنوت. وهذا الاستبعاد تمّ بشكل غير مباشر وتدريجياً عبر التاريخ دون تشريع عقائديّ أو لاهوتيّ. وإذا وقع نظر أحدهم على قوانين تمنع المرأة من بعض الممارسات الكنسيّة، عليه أن يعرف أنّ تلك القوانين كانت للعلماني بشكلٍ عام وليس للمرأة بالتخصيص. ومع هذا، فهناك الكثير من الشواهد القانونيّة كانت المرأة فيها تمارس الكثير من الطقوس الكنسيّة: كدهن المرأة بالميرون المقدّس بعد المعموديّة، كتكريس المرأة لدرجة الشمّاسيّة ووضع اليد عليها واستدعاء الروح القدس، وسماح للمرأة بدخول الهيكل والتناول كما الشمّاس من الكأس المقدّسة. هذه الممارسات وغيرها عديدة مطروحة في نصوص تعود إلى القرنين الثامن والتاسع، وقد توقفت هذه الممارسات الطقسيّة الخاصّة بالنساء بسبب الظروف الاجتماعية التي سادت في الشرق فتغيّرت. كان حضور المرأة في نصوص العهد القديم والجديد لافتاً، نذكر منهنّ دبورة المرنمّة، وكانت نبيّة وقاضية لإسرائيل. وكانت تدعى "أمّ اسرائيل". وأيضاً، ياعيل التي غرست الوتد في صدغ سيسيرا، قائد جيش يابين، فقتلته (قض 4: 21) وكانت ملقبة ب "المباركة في النساء". وأيضاً، هناك راعوث، جوديث، أستير ...الخ. إنّ النغمة الأموميّة مهمّة كإمرأة سفر الرؤيا ليوحنّا الانجيليّ "التي تحيط بها الشمس مع الاثني عشر نجمة على رأسها" (12:1-2). ومع العذراء مريم تحقّق الرجاء المسياني للخلاص، وجذّرت بعمقٍ تلك الثقافة الأموميّة والتي نرتلها في أبيات المديح. إنّ التطوّر في الحياة الكنسيّة قد أخفى دور ومكانة العلمانيّين بشكلّ عام، وليس دور المرأة فقط. فتلك الفترات التي ارتبطت بالمعاناة والضيق سيطرت فيها الحركات الرهبانيّة على كلّ من الحياة الفكريّة والروحيّة والاجتماعيّة في الكنائس الأرثوذكسيّة في كلّ مكان، فأصبح الراهب هو الأسقف وهو الكاهن. وأيضاً، في زمن الاضطهاد، كاد أن يختفي الكاهن المتزوج من الكنيسة. أُفسد العالم القديم بانشغاله وتأثّره بقول ترتيليانوس بأنّ "المرأة هي باب الجحيم"، ولم يلتفتوا إلى الاحتجاج القويّ الذي قاله القدّيس غريغوريوس اللاهوتيّ بأنّ "الرجال هم المشرّعون لقوانين ضدّ المرأة". أهملت الكنيسة الأرثوذكسيّة، إلى حدٍّ كبير، ما تصرح به القوانين الكنسيّة كقوانين الرسل وقوانين هيبوليتس وكتابات الآباء عن اللاهوت. ولهذا علاقة أساسيّة بوضع خدمة تقوم بها المرأة في الكنيسة. ولا يجب أن تُعطى خدمة للمرأة على أنّها إمرأة فقط، بل لأنّها عطية الروح القدس للجماعة. فالخدمة في الكنيسة تُعطى لمن يملك مواهب الخدمة، وإلاّ تصبح خدمة المسيح مؤسَسة على نظام بيروقراطي بعيد كلّ البعد عن النظرة المواهبيّة الخاريزماتيكية. فبروح التمييز والإفراز تعطي الكنيسة خدمة لهذا الإنسان، رجلاً كان أم إمرأة، دون الالتفات إلى نوع الجنس وما إليه. "ليس رجل أو امرأة، عبد أو حرّ" كما يقول الرسول بولس وإنّما تمايزٌ في الوظائف. وكما ذُكر أعلاه، استبعد التقليد الكنسيّ المرأة من الكهنوت دون تطوير أو وجود إثبات لاهوتيّ ذي صلة. ومن هنا نفهم مدى الإحراج الذي يقع فيه بعض دارسيّ اللاهوت اليوم، والذين يحاولون في هذه الحالة تبرير هذا الإقصاء مستندين إلى الأسباب التالية:
وأخيراً، وليس آخراً، لا شيء أقوى من تقليد الكنيسة. وبالتالي، ليس هناك من حاجة لمثل هذه الحجّج المتناقضة والمماحكات الهذيانيّة على الإطلاق والتي تقلل من دور ومكانة المرأة كعضوٍ في الجسم الكنسيّ. لا يمنع العهد الجديد النساء من ترجمة هبات الروح القدس على أرض الواقع، فهنّ مدعوات كما الرجال إلى خدمة الآخر وإظهار ثمار الروح والتبشير بالإنجيل. إقصاء المرأة من الكهنوت لم يقلل ولن يقلل من الحياة المواهبيّة في الكنيسة. ومع ذلك، لا يريد أحد أن يواجه هذه التغييرات السريعة المتفجرة في المعطيات التاريخيّة، ويرتقي لخطاب كنسيّ يجيب على أسئلة مشروعة يطرحها المؤمنون والمؤمنات والمخلصون والمخلصات لكنيستهم المقدّسة. برأيي الشخصّي إنّ الكنيسة الرومانية، عاجلاً أم آجلاً، ستتبنى كهنوت النساء. ماذا ستفعل حيال ذلك الكنيسة الأرثوذكسيّة؟ ما يجب أن تفعله هو الاستعداد، ليس بمثل هذه الحجج المتأرجحة الواهية، بل بالتنظيم المجتمعيّ لحياتها، حيث يعمل كلاً من الرجل والمرأة في مساواة وتكافؤ كاملَين، مع قطف ثمار الحياة المواهبيّة وتنمية الثقافة والتعليم. فلا حجج لاهوتيّة واضحة ومثبتة تمنع شموسية أو كهنوت المرأة ، وتكمن العوائق في تلك النظرة السلبيّة تجاه المرأة والتي نمت وترعرعت في هيكليات المجتمع الأبوي الذكوري وذهنيته وبيئته الثقافية مما طمس حدّة الإنجيل وجدّته. وعليه، علينا أن نعمل بلا توقف على تطوير نوع العقليات الخاطئة والسائدة في الكنيسة وعلى التحرّر من الموروثات التي تعيق تقدّم الإنسان، رجلاً كان أم امرأة، ليتمكن من عيش المسيحيّة الحقيقيّة، ومن التمتّع بالمواهب الجديدة المعطاة بالروح القدّس للمؤمنين والمؤمنات، وأن نكون كما الكنيسة الأولى شهوداً لعصرنا.
0 Comments
Your comment will be posted after it is approved.
Leave a Reply. |
Telosقضايا حاليّة أرشيف
|