كتب أسعد قطّان:
تنبسط القارّة القديمة على جمالها الذي لا يشبه إلاّ ذاته ولا يُنسب سوى إلى ذاته. تنبسط القارّة القديمة على مجاز شكسبير وصرامة إيمانويل كانط في عمارته الفكريّة وروح الشرائع في فلسفة التشريع لدى مونتيسكيو. منذ أكثر من ستّين سنة وهذه القارّة تقدّم للمسلمين الذين أتوها أفضل ما عندها، وهو ما لا تقدّمه لهم غالبيّة المجتمعات التي كانوا ينتسبون إليها والتي نسمّيها «إسلاميّة». تقدّم لهم أوروبّا شيئاً من الرخاء الاقتصاديّ وكثيراً من العدل الاجتماعيّ فيما معظم المجتمعات الإسلاميّة ما زالت تشهد، سواء في القوانين أو في الممارسة، تمييزاً فاضحاً لمصلحة الأقوياء في السياسة على حساب الفقراء والضعفاء. تقدّم لهم حقوق الإنسان والمساواة بين المرأة والرجل فيما نحن ما زلنا، في معظم المجتمعات المدعوة إسلاميّة، نربّي الأطفال على القمع، ونضطهد النساء ونبارك منظومات تشريعيّة تنتقص من حقوقهنّ المجتمعيّة والجنسيّة. والحقّ أنّنا نقوم بكلّ هذا باسم ذكوريّة تافهة تعيد إنتاج ذاتها عبر استعادة نصوص دينيّة على نحو إطلاقيّ يتجاهل تطوّر المجتمعات وحركيّة التغيّر في العقول والذهنيّات. وتقدّم أوروبّا لهؤلاء الحرّيّة، وهي قيمة متأصّلة في الكتب الدينيّة، حيث يدعو الله الإنسان إلى اختيار الخير ونبذ الشرّ، وتشكّل بالاستناد إلى الخبرة التاريخيّة أعمق ما يكوّن وعي الإنسان بالنسبة إلى ماهيّة ذاته. هذه الحرّيّة ما زالت تعتريها في معظم المجتمعات الإسلاميّة نواقص في التشريع وفي الأداء المجتمعيّ، وغالباً ما نسمع ممثّلي المؤسّسات الدينيّة يذمّونها بالاستناد إلى حجج خرقاء. كيف نفسّر الشرخ بين القيم الإنسانيّة العليا التي تدافع عنها أوروبّا وتجعلها نبراس حسّها المجتمعيّ وغالبيّة المجتمعات الإسلاميّة؟ الجواب التبسيطيّ هو أن يقال إنّ المشكلة تكمن في الإسلام ذاته. الجواب تبسيطيّ، أوّلاً، لأنّه ليس ثمّة إسلام منفصل عن المسلمين. فالدين في تمظهره المجتمعيّ يرتبط بأحوال البشر الأفراد ومخزوناتهم الثقافيّة وسلوكيّاتهم، وهذه متنوّعة ولا يمكن اختزالها. أستاذة الطبّ المسلمة ذات التوجّه العلمانيّ في بيروت تلتقي مع المتصوّف المولويّ في اسطنبول على الانتساب إلى الدين ذاته من حيث الأركان والمنطلقات. ولكنّ هناك آلاف الظلال التي تميّز إسلام كلًّ منهما في المقترب الذهنيّ والثقافة والسلوك والعلاقة مع التراث. نكران هذه الظلال أو محاولة إبطالها هما من باب التهويم الإيديولوجيّ. وجواب كهذا تبسيطيّ، ثانياً، لأنّ لكلّ مجتمع من المجتمعات الإسلاميّة حكايته مع التاريخ، وهذه الحكاية صاغته وشكّلته. تاريخ الإسلام في إندونيسيا ليس إيّاه تاريخ الإسلام في إيران. والتاريخ ينشئ اختلافاً في الوعي واختلافاً في الحسّ. من لا يلتفت إلى كلّ هذا التنوّع، يقع في فخّ جعل الإسلام مرادفاً للإرهاب والعنف. وإطلاق الأحكام التعميميّة من خارج الإلمام بالشرط التاريخيّ لا يدمّر الموضوعيّة فحسب، بل هو معرّض أيضاً لأن يغذّي سيكولوجيا عنفيّة متأصّلة في قيعان الذات الفرديّة والجماعيّة. ولكنّ نبذ الاختزال والتعميم يجب ألاّ يفضي بنا إلى تفادي السؤال. لقد آن الأوان أن ينبري المسلمون إلى تفحّص هذه المسألة بجدّيّة (وبعضهم منخرط في ذلك) عوضاً من أن ينصرفوا إلى دفاع رخيص عن الإسلام ونبيّه غالباً ما يسوق إلى تسطيح الأشياء وقذفها إلى دائرة الخطاب الشعبويّ. كيف نفسّر الافتراق بين غالبيّة المجتمعات الإسلاميّة والمنظومة القيميّة الإنسانيّة الحديثة؟ أيّ جواب جدّيّ على هذا السؤال لا بدّ له من أن يكون متعدّد الجوانب، إذ أغلب الظنّ أنّنا نتعامل مع قضيّة ذات عوامل متشابكة. ولكنّ الأكيد أنّ جزءاً من الردّ يكمن في علاقة الإسلام المأزومة بالحداثة الغربيّة. فهذه الحداثة هي التي تصنع كلّ شيء اليوم: تصنع الفكر وتصنع الثقافة وتصنع التكنولوجيا وتصنع الاقتصاد وتصنع التاريخ، بحيث يبدو الإسلام بإزائها هامشيّاً بعدما كان يمسك بناصية صنع الحضارة الإنسانيّة طوال قرون. وفق هذا المنطق، يبدو الإسلام حيال الحضارة الغربيّة أشبه بالملك المخلوع عن عرشه رغم مملكته المترامية. في هذه العمليّة التحليليّة المعقدّة الثنيّات التي يتعيّن على العقل الإسلاميّ أن يخوضها بنزاهة فكريّة وشفافيّة وانفتاح على كلّ احتمالات المساءلة والمراجعة والتصويب، لا بدّ من إلقاء البال إلى أمرين: إشكاليّة تأويل النصوص الدينيّة وإشكاليّة الحرّيّة. ما خلا استثناءات قليلة مهمّة ولكنّها قليلة التأثير على وجه العموم، تدور عمليّة تأويل النصّ القرآنيّ ونصوص التراث الإسلاميّ اليوم في حلقة شبه مفرغة. فمن يمسك بناصية التفسير والتشريع في العالم الإسلاميّ، ولا سيّما المؤسّسات والحوزات المدعوة «علميّة»، ما زال يقوم بالعمليّة التأويليّة والتشريعيّة بالاستناد إلى مجموعة من علوم الدين الموسومة بختم الماضي، وذلك في انقطاع كلّيّ عن كلّ ما أنتجته العلوم الإنسانيّة الحديثة، كالتاريخ وعلم الآثار وعلم الاجتماع وعلم النفس، من مناهج حديثة في فهم النصوص وتأويلها. طبعاً، جزء من هذه المعضلة يكمن في أنّ هذه العلوم غربيّة الطابع ولصيقة بالحداثة الآتية من الغرب. ولكنّ المسلمين في الماضي تفاعلوا مع علوم اليونان والفرس والهند ولم يقولوا: هذا منتج من خارج «الأمّة» لا يسوغ الأخذ به. فلماذا يحجمون اليوم عن المنتج العلميّ الغربيّ؟ مشكلة العقل الإسلاميّ اليوم مردّها أنّ العلوم الإنسانيّة التي أتينا على ذكرها تشكّل، من جهة، وعي كثيرين من المسلمين حول العالم. ولكن حين نأتي إلى علوم الدين، من جهة أخرى، فإنّ هذه تبدو أشبه بمنظومات ماضويّة مقفلة وغير قادرة على مجاراة العصر وما يتّصف به من تبدّلات ثقافيّة وذهنيّة. هذا الافتراق بين العلوم الحديثة وعلوم الدين ينشئ فصاماً يدفع المسلمون ثمنه فيما معظم حوزاتهم العلميّة تخشى الانزياحات إمّا بضغط السياسة أو محافظةً على سلطتها وإمعاناً في تسلّطها. المسلمون اليوم لا يحتاجون إلى «إحياء» لعلوم الدين، بل إلى تجديد لهذه العلوم عبر استلهام الإنسانيّات الحديثة، مع كلّ ما تستبطنه هذه العمليّة الجريئة والشاقّة من تبدّل في استقراء احتمالات العلاقة بين المعطى الإلهيّ والمعطى الإنسانيّ. الأمر الثاني هو قضيّة الحرّيّة. لا يقعنّ أحد في الوهم. لن يتراجع الإيمان بالحرّيّة الإنسانيّة في الفكر والتعبير. وهذه الحرّيّة مسؤولة أمام ذاتها فقط، ولا أحد يرسم لها قنوات وحدوداً لا باسم مراعاة المشاعر الدينيّة ولا بالاستناد إلى أيّ معيار آخر. فمن يكمّ اليوم الأفواه لئلاّ يشعر المسلمون بأنّ نبيّهم يهان، ربّما سوّغت له نفسه غداً أن يكمّها باسم العرق أو الجنس أو الانتماء القوميّ. هل هذا ما نريده؟ لا يلعبنّ أحد هذه اللعبة مع الحرّيّة باسم الدين والدفاع عن الأنبياء والمرسلين. فالحرّيّة كنز ثمين لا يفرّط به، والأنبياء لا يحتاجون إلى من يدافع عنهم. يضاف إلى ذلك أنّ جزءاً من هذه الحرّيّة هو نقد الدين. هذا النقد لم تخترعه الحداثة الغربيّة ولا هو لقيط الدوريّات الكاريكاتوريّة الفرنسيّة. أوّل من مارس نقد الدين كان الأنبياء ذاتهم من ابرهيم إلى محمّد مروراً بعيسى المسيح، ومن بعدهم فلاسفة ودعاة دينيّون كثر. لولا هذا النقد، لما تدرّب البشر على إقامة تمييز ممدوح بين الدين الأصيل والدين الكاذب ولظلّوا يتخبّطون في مستنقع الأسطرة وتفتك بهم دودة الخلط بين الدين والخرافة. حذار من اللعب مع الحرّيّة باسم الدين. فالتجربة التاريخيّة التراكميّة تثبت أنّ لعبةً من هذا النوع غالباً ما تكون خاسرة. وحتّى لو ربحها الدين، فإنّه يخسر ذاته، إذ ماذا يبقى من الدين إذا انتفت الحرّيّة الإنسانيّة؟
0 Comments
Your comment will be posted after it is approved.
Leave a Reply. |
Telosقضايا حاليّة أرشيف
|