١٥ أيلول/سبتمبر ٢٠٢٠ خريستو المرّ عادة ما ينسى الإنسان الموت ويتناساه. أمّا في حالتنا في هذه البلاد فنكاد نصبح أصدقاء للموت. في معظم سنوات عمرنا، كان رفيق قهوة الصباح ونشرة أخبار المساء، وصفحات ما بقي من جرائد. يتنزّه في بلادنا كيفما يشاء، ويمدّه سياسيّونا ورجال أدياننا بالعون دون تردّد. ولكنّنا نتكلّم عن الموت وكأنّه شيء خارجيّ، والواقع أنّ الموت داخليّ فينا، يبدأ بالنموّ في أجسادنا منذ لحظة ولادتنا؛ ننمو وينمو هو فينا. ولهذا كان نسيانه مشكلةً، ليس لأنّنا يجب أن نهجس بالموت، ولكن لأنّ من لم يعط معنى لموته لم يستطع أن يعطي معنى لحياته، ولم يستطع أن يحيا حرًّا لأنّنا لا نستعبد أنفسنا لآخرٍ إلاّ خوفًا من الموت. الحرّة والحرّ هما اللذان لحياتهما معنى أوسع من مجرّد البقاء على قيد الحياة، هما اللذان يريدان أن تتأجّج فيهما الحياة، ولهذا يرفضا أن يستعبدهما أحد ويتمسّكان بالمعنى وباشتعال الحياة فيهما حتّى ولو أدّى ذلك - في مفارقة ظاهريّة - إلى كلّ أنواع الموت: الوحدة، النبذ، تشويه الصيت، وحتّى القتل. وكلّ موت كهذا هو شهادة. كلّنا سنموت، السؤال المهمّ هو أيّ معنى سيكون لموتنا، أي بعبارة أخرى أيُّ معنى سيكون لحياتنا؟ كثيرون ماتوا في حروب أهليّة وقيل أنّهم ماتوا مجانًا: ماتوا من رصاصة طائشة، أو قذيفة بينما كانوا نياما، أو ذاهبين إلى العمل أو لشراء ربطة خبز. في الظاهر لا يبدو لموت هؤلاء الناس من معنى، فهم لم يحاربوا في جبهة دفاعًا عن أهلهم، ولا ماتوا نتيجة رأيهم السياسيّ. ولكن في العمق، من يعلم؟ ربّما قضى أحدهم حياته ساعيا لحماية حياة عائلته أو دفاعا عن حقّ أو احتجاجًا على الظلم، فإن كان الأمر كذلك فهناك معنى لموته بالنسبة له هو، هو الذي استشهد أثناء ممارسة حبّه اليوميّ. حياة إنسان كهذا مليئةٌ بالمعنى إن كان هو يرى أنّ أفعاله اليوميّة كانت تعبير حبّ، أنّه كان فيها يتواصل مع آخرين، ومع الطبيعة، ومع الله عند من يؤمن. عندها الحبّ هو المعنى. وهل من معنى أعلى، بل آخر، على هذه الأرض؟ المؤمنون بالله يمكنهم أن يروا بالموت عبورًا إلى واقع آخر، فهم يؤمنون أنّ محبّة الله ستمتدّ أمامهم جسرًا فوق فوّهة العدم لئلاّ يعودوا إلى العدم الذي منه خرجوا، يؤمنون بأنّ محبّة الله سترتمي إليهم كما ترمي أمٌّ بنفسها إذا وقع أحد أولادها كي لا يؤذى أو يعود إلى رحم الأرض التي منها الجميع، تريد لرحم الحبّ، رحمها، أن ينتصر على رحم الأرض، تريد أن ينتصر الحبّ على التراب. هكذا الله، كالأمّ، يرتمي إلينا بعد موتنا كي لا نعود إلى العدم، كي تنتصر رحمة حبّه على العدم. في كلّ ولادة تنتصر المحبّة الإلهيّة على العدم الذي منه نخرج، وفي كلّ لحظة تنتصر على العدم كي نبقى موجودين، وبعد الموت تنتصر على العدم لنحيا للأبد. إنّ محبّة الله تُنهي عدمنا يوم نولد. أمّا بالنسبة لمن لا يؤمن بالله، فيمكنه أن يقول: لست أدري عمّا تتحدّث ولكن أعلم أنّ المحبّة فيّ تناديني أن أحياها لأحيا. ظنّي أنّ ذلك يجعل القائل في قلب الله. قد يكون البشر قد اخترعوا الله، وقد يكونوا لم يخترعوه كما يؤمن كاتب هذه السطور، يبقى أنّ الإنسان مدفوعٌ على إعطاء معنى لحياته هو بالذات، ولا معنى أهمّ من أن يحيا الإنسان ذاته دون تزوير، لكي تغدو حياةً متأجّجةً، وشرط هذا أن يحيا في فرادته، ويرفض أن يكون كما شاء آخر له أن يكون. أن يكون الإنسان ذاته هو أن يحقّق كلّ ما يقول فيه أنا، ويحقّق كلّ ما يقول فيه نحن. عندها يكون نفسه ويكون مُحِبًّا، وهذا تحقيق للشخص الإنسانيّ صورة الشخص الإلهيّ: أقنوم محبّة يجمع فرادته التامّة في الوحدة التامّة مع آخرين. هذه المحبّة هي نبع الحياة التي تبتلع كلّ عدم، وتكسر شوكة كلّ موت.
0 Comments
Your comment will be posted after it is approved.
Leave a Reply. |
Telosقضايا حاليّة أرشيف
|