يأتي عيد الفصح بحسب التقويم الغربيّ هذه السنة مثقلاً بالالتباسات. لعلّ أبرز هذه الالتباسات يكمن في أنّ الجائحة ما زالت تتحكّم في واقع الناس، ما يجعلهم يترجّحون بين حنينهم إلى الأيّام التي كانوا قادرين فيها على أن يروا بعضهم بعضاً بلا خوف مفرط من انتشار الأوبئة والأمراض، وشعورهم بأنّهم بدأوا يتكيّفون شيئاً فشيئاً مع حياة من نوع آخر تحتلّ فيها الاجتماعات الرقميّة مساحةً كبيرة. غريب هذا الشعور، وغريب هو الإنسان. فهو من جهة يدرك أنّه «حيوان» اجتماعيّ، كما كتب أرسطو ذات يوم، وأنّ التواصل بالنسبة إليه ليس ترفاً، بل هو أشبه بالهواء الذي يتنفّسه. لكنّه من جهة أخرى يستشعر أيضاً في ذاته قدرته المذهلة على التكيّف، والتي ربّما تعكس ما ترسّب في سيكولوجيا الأفراد والجماعات من حكاية طويلة من التبدّل والتأقلم حاول العلماء تلمّس بعض جوانبها في ما يسمّونه «نظريّة النشوء والارتقاء».
بمعنى ما، سيبقى الالتباس التباساً. ثمّة مؤشّرات إلى أنّ البشريّة بدأت تستعدّ لخوض غمار هذا النوع من الحياة الهجينة، والتي تزاوج بين الاجتماع الحسّيّ والاجتماع الرقميّ، وذلك حتّى لو تسنّى لنا أن نكبح جماح الجائحة بفضل اللقاحات التي طوّرها العلماء بسرعة قياسيّة في عمليّة بحثيّة وإنتاجيّة لم تعرف البشريّة مثيلاً لها في تاريخها الحديث. ولكنّ حلول عيد الفصح للسنة الثانية على التوالي في هذه الأزمنة التي يغلب فيها الحذر على الثقة والشكّ على اليقين إنّما يضع نصب أعيننا حقيقةً لم نسائلها يوماً لفرط إدراكنا كم هي بديهيّة، حتّى أتت الجائحة كي تظهر لنا أنّ البديهيّ يمكنه أنّ يبدّل موقعه في لحظة وينتقل إلى خانة اللابديهيّ. هذه الحقيقة تتلخّص في أنّنا لسنا كائنات عقليّةً فحسب، بل نحن كائنات نحتاج إلى الحسّ، إلى مصافحة الآخرين واحتضان أصابعهم وضمّهم ومعانقتهم وتلقّف نبرة أصواتهم لا على جهاز الكمبيوتر أو على الهاتف الجوّال، بل وجهاً وجه. لا شيء يغني عن هذا الشعور، لا نقل الخدم الكنسيّة عبر الصفحات الرقميّة، ولا دعوةً الناس إلى استنباط طرق للتعييد في بيوتهم من دون الذهاب إلى الآخرين. فالعيد لا يقتحم حياتك ما لم تختبر تغيّر الأمكنة. والأمكنة هي الناس الذين يقطنونها. كما أنّ معمول العيد يشكّل طقساً فريداً من دونه لا يتّخذ العيد بعداً «تجسّدياً» في حاسّة الذوق، كذلك فإنّ الحجّ إلى الوجوه في العيد، واقتران هذا كلّه بطقوسيّات لا تأتي إليك ما لم تذهب أنت إليها، ليس تفصيلاً، بل هو جزء لا يتجزّأ من المعنى الجديد الذي يسبغه العيد على تفاصيل حياتنا. في مثل هذه الأيّام من السنة الماضية، كنّا تحاول إقناع ذواتنا بأنّ الجائحة مجرّد غيمة صيف، وأنّها ستنقضي سريعاً. اليوم ندرك أنّنا ربّما غالينا في التفاؤل. فلا أحد يستطيع أن يتكهّن بما ستكون عليه الأمور في السنة المقبلة، لا العلماء ولا السياسيّون ولا ضاربو المندل. ولكنّ الخطورة هي أن نتعوّد على فائض الفردانيّة الذي فرضته علينا الجائحة فنتحوّل إلى بشرُ أقلّ إنسانيّةً وأكثر تعاسة. وهذه الحال لا ينفع معها لقاح كائناً ما كان مصدره. عيد الفصح يأتي اليوم كي يذكّرنا بأنّ الاجتماع الأصيل مرتبط بالحسّ وبأنّ العقل، كما أنّه مطالب بعدم الانفصال عن القلب، هو أيضاً مطالب بعدم الوقوع في محظور الانفصال عن الجسد. فالتواصل مع الآخرين يحتاج إلى الجسد كما تحتاج الخمر إلى وعاء كي تصبح قابلةً للتذوّق. إنّ بعضاً من خمرة العيد هو وجوه الآخرين الذين «في عيونهم ومضة إذا هم أبصرونا» (جورج خضر). عسى تكون الخوابي مثقلةً بالوجوه في العيد المقبل... أسعد قطّان
0 Comments
Your comment will be posted after it is approved.
Leave a Reply. |
Telosقضايا حاليّة أرشيف
|